لطالما التزمت الجمهورية الفرنسية نهجا سياسيا متزنا في سياساتها الخارجية في العقود الأخيرة من القرن المنصرم، ولعل العلاقات الوطيدة التي أسسها الرئيس «الديغولي» جاك شيراك مع العديد من الدول العربية كانت ولا تزال مثالا للديبلوماسية الدولية، ويذكر الكثيرون باعتزاز كبير لـ «رجل الجمهورية الخامسة» موقف المتحدي لجنود الاحتلال الإسرائيلي خلال زيارته للقدس المحتلة 22 أكتوبر 1996، كما تمتع مناصر القضايا العادلة بشعبية كبيرة في الوطن العربي من خليجه وانتهاء بمحيطه الأطلسي، لمواقفه المناصرة للحق العربي واتخاذه ما عُرف بـ «سياسة فرنسا العربية» نهجا ومسلكا.
تغير الحال بعض الشيء مع بداية الألفية الثالثة، شهدنا الانتخابات الرئاسية الفرنسية الماضية، وحدة الطرح غير المألوف سعيا لحشد أصوات الناخبين، في فترة شهدت القارة الأوروبية أشبه ما تكون بموجة عرفت بـ «الشعبوية القومية» تبنتها الأحزاب اليمينية المتطرفة، واتخذت من العنصرية البغيضة حد الوقاحة في خطابها السياسي نهجاً، وترويع الآمنين بكلمات غلاظ ووعود بالويل والثبور، لكن فرنسا الليبرالية قالت كلمتها الحاسمة، وانتصرت لمبادئها الثابتة بفوز ذي الاثنين والأربعين عاما إيمانويل ماكرون.
شهدت إحدى ضواحي باريس حادثة منكرة ومستفزة بذات الوقت لكل نفس سوية، أسفرت عن مقتل مدرس بعدما عرض صوراً مسيئة للنبي الأكرم، تمت إدانة الفعل القبيح برمته، شعبيا ورسميا من أغلب الدول الإسلامية، وأعلنت السلطات الرسمية الفرنسية ومؤسساتها الأكاديمية بدورها عن اتخاذ عدة إجراءات من شأنها نبذ العنصرية، وتخليد ذكرى المدرس صموئيل باتي، لكن الرئيس الفرنسي ذهب بعيدا بربط الحادثة بالإسلام بقوله «إرهاب إسلامي»، وهو يعلم قبل غيره أن الإسلام من مثل هذه التصرفات براء ولا يقرّها جملة وتفصيلا، بحكم اطلاعه وتناوله مختلف القضايا المشتركة مع عديد الزعماء العرب والمسلمين من موقع مسؤوليته، وزاد موقفه حدة وتطرفاً بتمسكه بنشر الصور المسيئة للنبي الأكرم، في تحدٍّ سافر وغير مقبول لمشاعر ملايين المسلمين حول العالم، وهذا سلوك لم يكن ليقوم به الراحل شيراك، أو غيره من الرؤساء الفرنسيين السابقين، فـ «الشعبوية» نهج لا يليق بالجمهورية الفرنسية.
نبينا الأكرم قائد مسيرة عطرة، وصاحب رسالة عالمية سمحة، تدعو إلى العدالة في جميع صورها، تنشد السلام، وحسن الجوار، ويحترم الرأي الآخر، وإن شذَّ شارد هنا أو مطارد هناك فهذا لا يخول أياً كان بالإساءة لجنابه الكريم.
[email protected]