دارين العلي
لا يمكن لأحد أن يتخيل المشاعر التي تختلج في صدور أسر الشهداء الذين عادت رفاتهم الى أرض الوطن، فبين الألم والفخر والحزن والفرح خيوط رفيعة توصل أحيانا وتقطع أحيانا أخرى لتفتح الجراح مجددا وترتفع الرؤوس شامخة فخرا في آن.
هذه المشاعر نقلتها شذى القبندي أخت الشهيد حسين القبندي الذي اطلعت أسرته على رفاته بالأمس ووقعت شهادة وفاته بعد ان رفضت والدته على مدى السنين توقيع هذه الإفادة على أمل العودة واللقاء.
«الأنباء» تواصلت مع أخت الشهيد التي نقلت مشاعر أسرتها بهذه العودة ساردة ظروف اعتقاله حتى إعلانه شهيدا، وفيما يلي التفاصيل:
في البداية، قالت شذى: «اعتقدنا أننا اعتدنا على هذا الأمر ولكن بعد سماع النبأ انفتح الجرح مجددا وكأنه بات ينزف اليوم وكأن أخي توفي مرة أخرى او انه استشهد اليوم لقد كان لدينا أمل ولو 1% أن يكون ضائعا أو فاقدا الذاكرة أو معذبا في أحد السجون أو في أحد السراديب، وعلى هذا الأساس لم تصدر أمي شهادة وفاة مع أن القانون الدولي ينص على أنه في حال غياب 20 سنة لابد من أن تكتب شهادة وفاة، ولكن أمي رفضت ذلك رفضا قاطعا، وهي تقول ممكن أن يأتي اليوم او يمكن أن يأتي غدا».
وأضافت: «عندما سمعنا مؤخرا بأنه تم العثور على رفات 21 شهيدا في مدينة السماوة كنا نترقب واليوم صدر الخبر وكان أخي ضمن الأسماء الشهداء الذين عادت رفاتهم إلى الكويت، نعم نحن نشعر بفرحة وفخر ولكن في الوقت نفسه يعترينا حزن شديد وكأن جرحنا قد فتح مجددا وكأن اليوم مات أخي وارتفع إلى الله شهيدا وهو يدافع عن أرض الوطن، هناك من يبارك لي وهناك من يتأسف ولكن أقولها انه على مر السنين كان لدينا أمل ولو ضئيلا جدا».
وفي تفاصيل اعتقاله، قالت القبندي انه كان في المجموعات التي كانت مع الشهيدة اسرار القبندي وكان في الفرقة الخاصة بمتابعة مناطق بيان ومشرف والرميثية وكان اليوم تاريخ 10 أغسطس حيث طلبت منه أمي عدم الخروج من المنزل لأنها كانت قد رصدت في سيارته أعلام الكويت وصورا للأمير الراحل بابا جابر وبابا سعد، وكان في تلك الأيام قد قال لي وكان عمري حينذاك 13 عاما أن أوزع بعض الأموال وأضع في كل ظرف 50 دينارا كان يقوم حينها بتوزيعها على الناس المحتاجين من الكويتيين والذين لا يستطيعون تأمين قوتهم في ذلك الوقت بسبب الظروف، كان مسؤولا عن توزيع الأموال إليهم.
الخروج الأخير
وأضافت: «في 10 أغسطس وكان قد صلى صلاة الظهر وخرج بملابس المنزل بالرغم من أن أمي طلبت منه عدم الخروج إلا انه ودعنا جميعا وكأنها المرة الأخيرة التي يرانا فيها، وعند الساعة الثالثة من بعد الظهر رن جرس الهاتف من ورفعت السماعة فخرج منها صوت جندي عراقي لن أنسى صوته ما حييت وطلب الحديث مع أمي وقال لها: «لماذا تعطين الأموال والأغراض والحاجيات لولدك كي يوزعها على الكويتيين لماذا تفعلون ذلك انه يتعارض مع وجودنا» وقال لها أيضا «نحن رأينا صور وأعلام الكويت وصور القادة في سيارته لذلك فإن عقوبته الحبس والإعدام».
بداية رحلة البحث
وقالت القبندي انه بعد هذا الاتصال بدأت رحلة البحث المضنية حيث توجه جميع أفراد الأسرة المؤلفة من ست بنات وشابين الى مخفر الرميثية أولا للبحث عنه حيث تقول القبندي: «كانت إحدى إخواتي حاملا وكانت جدتي كبيرة في السن وطلبنا منهم رجاء أن نرى شقيقي أو ان نعرف عنه أي معلومات إلا ان أحدهم وضع السلاح على بطن شقيقتي الحامل وقال لقد أخذنا أخوكم ولن تروه مجددا وتهمته هي مساعدة الكويتيين من جيرانكم وفي منطقتكم ورفضه الإفصاح عن مصدر الأموال التي كان يوزعها على العوائل الكويتية».
وأضافت: إن الأمر لم ينته هنا بل تم التوجه أيضا إلى مخفر بيان، حيث كانت توجد الاستخبارات العراقية، حيث تبين أنهم كانوا يراقبون جميع الشبان حينها خاصة في المظاهرات التي خرجت في منطقة الرميثية في الرابع والخامس من أغسطس في ذلك الوقت وكان النساء والأطفال من بين المتظاهرين وكان الشبان ومن بينهم أخي يحرسون هذه المظاهرات وتحديدا في شارع المدارس، حيث خرج الجيران جميعا من العائلات المختلفة الوسمي والعازمي والكندري وكلنا جميعا كنا نهتف «لا حكم إلا الصباح» وكان أخي ومع مجموعة من الشبان يشكلون سلسلة بشرية لحماية تحركنا وعندما بدأت الرشاشات من فوقنا وكانوا ينادون عليه للخروج من الساحة كان يقول نحن قادرون متعاونون أن نخرج العراقي من البلد».
وقالت القبندي إن جهودهم لم تتوقف هناك بل توجهوا الى مخفر الجهراء وقالوا لهم إنهم قد أخذوه الى المعتقل في البصرة، وحينها قامت الأم والجدة والأخت الكبيرة بزيارة إلى العراق استمرت مدة 5 أيام وكانت الزيارة الأولى وكانت مليئة بالمشاكل والعقبات وخصوصا على الحدود.
المعاناة مع المحتل
وتقول شذى القبندي: «كانت أمي وجدتي يقبلون أيادي الجنود ويرجونهم حتى يتمكنوا من رؤية أخي ولو لبرهة صغيرة وقد أرسلونا من منطقة الى أخرى حتى وصلنا الى الموصل وبقينا على هذه الحال لمدة شهرين نذهب ونأتي ونصرف الأموال على هذا وذاك وعلى وعود زائفة برؤية أخي ولكن كله كان عبثا».
البحث بعد التحرير
وبعد التحرير تقول شذى: «سمعنا انه كان في معتقل يسمى الغريب وفي إحدى جلسات «لم الشمل» قيل لنا إنه في معتقل الغريب كان هناك شاب اسمه حسين القبندي وكان يقوم بغسل الملابس للرجال الأسرى الكويتيين المتقدمين في السن، وقد بقي هناك لمدة 3 أشهر وبعدها انقطع الاتصال منذ العام 91 حتى عام 1993، حيث جاءنا خبر آخر أيضا في إحدى جلسات لم الشمل وكانت من فتيات كويتيات كن في العراق لزيارة خالتهن العراقية وقد تعرضن للاعتقال بعد أن علم العراقيون أنهن كويتيات وفي السجن تحدثن مع أخي وقلن ان اسمه حسين القبندي وقلن انه قال لهن تحديدا: «أنا قد ربيت أختي الصغيرة وإذا تمكنتن من العودة إلى الكويت سلمن عليها اسمها شذى» ومن هذا الكلام تأكدنا بأنه فعلا كان حيا وكان هناك في هذا السجن، حيث قالت الفتيات بأنهن كن مجموعة من 600 أسير وكان يتعامل صدام معهم ككرت ضمان ضد الأميركيين لمفاوضتهم.
وقالت أيضا انها خلال الغزو وتحديدا في شهر نوفمبر زارهم احدهم في منزلهم في القرين، وقال انه كان في قصر نايف محجوزا مع شقيقهم حسين، وأنه استطاع الهرب من الشباك، إلا ان أخوهم كان مترددا في الهرب فلاحظه الجنود العراقيون وأطلق النار على إحدى قدميه فلم يتمكن من الهرب أبدا.
وقالت انه خلال عمل شقيقتها في لجنة الأسرى تمكنت في العام 2004 من الحصول على فيديو تم تصويره لعراقيين يقومون بإعدام من يحاولون الهرب من الكويتيين فكانوا يطلقون النار عليهم من ظهورهم وهم في صف، وعندما رأى والدها الفيديو خيل إليه ان ولده بينهم فتعرض لسكتة دماغيه أدت إلى شلل كامل في أطرافه وتوفي بعدها بـ 4 أعوام.
الشهيد المدرس
وقالت القبندي ان شقيقها عندما اعتقل كان يبلغ من العمر 22 عاما وكان خريجا في التربية الأساسية قسم اللغة العربية وعلى أبواب الزواج من إحدى زميلاته وكان سيصبح معلما في اللغة العربية في إحدى مدارس الحكومة إلا ان كل ذلك لم يكتب له.
شجون الأم
وأضافت القبندي: «أمي اليوم تقول انه منذ الغزو حتى اليوم كان لديها الأمل، أما اليوم فقد بكت وكأنها تبكي عن 30 سنة مضت، لقد شعرت بأن تربة الكويت ليست وطنها فقط بل انها صارت جزءا من روحها ورائحة ترابها حلوة لأنها فيها احد أحبائها، إنها تقول اليوم سيكون هناك قبر لتقرأ عليه الفاتحة بعد أن كانت ترفع يديها للسماء وتقرأ الفاتحة دون أن تدرك أنه حي او ميت بالرغم من أنها كان لديها الأمل ولو ضئيلا جدا».
وشكرت القبندي في ختام حديثها رجال الأدلة الجنائية، حيث اطلعت الأسرة بالأمس على الرفات ووقعت على شهادة الوفاة، حيث سيتم تسلم الرفات خلال يومين بعد إنهاء جميع الإجراءات، لافتة الى ان رجال الأدلة كانوا يتعاملون معهم بكل فخر واعتزاز.
أخي كان إنساناً بكل معنى الكلمة وكان يحلم أيام الثانوية بالذهاب للدفاع عن أرض فلسطين العربية
قالت شذى القبندي خلال اللقاء: «لقد كان أخي إنسانا بكل معنى الكلمة لا يشبه أحدا لقد كان في أيام دراسته في الثانوية يحلم بالذهاب إلى فلسطين ليدافع عن أرض فلسطين العربية، كان لديه مدرس فلسطيني أراد أن يعود إلى أرض بلاده يدافع عنها فقام أخي بحزم حقيبته ويريد ان يذهب معه، وكان يحاول ان يقنع أمي بذلك، وطبعا لم تسمح له ولكنه كان يحاول دائما أن يكون في مقدمة المدافعين عن أرض الوطن، لقد رفض الخروج من المنزل أيام الغزو، وقال نحن الكويت لنا ونحن كويتيون، ولن نخرج من منازلنا، وبالتالي بقينا والأسرة جميعا في المنزل ولم نترك الكويت.