خلال سنوات الحرب الباردة، كان العالم الثالث ساحة للصراع بين القوى العظمى، حيث كان التنافس على أشده بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من أجل المكانة في جميع أنحاء العالم. واليوم أصبحت المناطق النامية مرة أخرى ساحة للتنافس، لكن هذه المرة بين الولايات المتحدة والصين.
ومع انتهاء فترة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب، يبدو أن واشنطن تجنبت، وبالمصادفة، خطر أن تفصلها الصين عن الديمقراطيات المتقدمة الأخرى في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ. ومع ذلك، فإن الصراع من أجل النفوذ في العالم الثالث مازال في بدايته، حيث تمتلك بكين مزايا كبيرة وطموحات هائلة في هذه المناطق بحسب المؤرخ الأميركي هال براندز.
ويرى براندز الذي يعمل أستاذا لكرسي هنري كيسنجر للشئون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأميركية أن الصراع بين واشنطن وبكين يدور في أطراف في العالم لآن القلب الديموقراطي للعالم لم يعد مهددا بالمخاطر كما كان الحال خلال الفترة الماضية.
وقد كان مزيج النفوذ الاقتصادي الصيني والسلوك الأميركي المدمر للذات تحت حكم ترامب في أواخر عام 2019 وحتى بداية عام 2020 يهدد بدق أسافين عميقة في العالم الغربي وقد بدا من المحتمل أن تختار قطاعات كبيرة من أوروبا موقف الحياد بين أميركا والصين، أو حتى الاعتماد على تكنولوجيا الصين، وهو الخطر الذي تراجعت حدته مؤخرا وإن لم يختف تماما.
ويرى المؤرخ الأميركي براندز في تقرير نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء أن تزايد حدة القمع الداخلي، والضغط على النظام الديموقراطي في تايوان وقهر الدول التي تنتقد أو تقاوم سياسات الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، أدى إلى موجة من ردود الفعل الديبلوماسية المناوئة للصين في العديد من دول العالم الغربي. وتراجعت شعبية الصين بالفعل في أوروبا وشرق آسيا.
ووصف الاتحاد الأوروبي الصين بأنها «منافس خطير». كما قرر العديد من الدول المتقدمة سواء بشكل صريح أو ضمني عدم استخدام تقنيات شركة معدات الاتصالات الصينية هواوي في إقامة البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس للاتصالات.
والمفارقة هي أن حقبة رئاسة ترامب للولايات المتحدة التي اتسمت في أغلب سنواتها بمحاولة تفتيت العالم الديموقراطي، تنتهي بظهور تدريجي لتحالف ديموقراطي لمقاومة النفوذ الصيني، بحسب براندز.
ولكن للأسف، فالموقف مختلف في المناطق النامية، وتحديدا في وسط وجنوب شرق آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
فخلال الحرب الباردة، كان العالم الثالث نقطة ضعف استراتيجية للولايات المتحدة، حيث كانت شعوب هذه الدول أكثر استعدادا لقبول النفوذ السوفيتي بسبب مزيج من التطرف الأيديولوجي والمشاعر المناوئة للغرب في حقبة ما بعد انتهاء الاستعمار الغربي لتلك الدول.
والآن تغيرت الظروف بشدة، وتراجع اسم العالم الثالث، ليحل محله اسم الدول النامية أو الأسواق الصاعدة للتعبير عن هذه المناطق من العالم. ورغم ذلك فمازالت هذه المناطق تمثل تحديا استراتيجيا للولايات المتحدة.
وبشكل عام، فهذه الدول أقل تطورا من حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو ما يجعل عروض القروض والتمويل الصينية حتى السلبية منها، أكثر جاذبية لهذه الدول النامية. كما أن أنظمة الحكم الديموقراطي أقل قوة والفساد السياسي أكثر انتشارا في دول العالم الثالث سابقا، مقارنة بالدول الغربية، وهو ما يفتح نقاط دخول جيدة للنفوذ الصيني.
وبسبب خبراتها التاريخية مع الاستعمار والتدخل الغربي (أحيانا من جانب واشنطن نفسها)، فإن الدول النامية تفضل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتتجنب إدانة الانتهاكات الاستبدادية للحزب الشيوعي الصيني. لذلك فإن الصراع على النفوذ في دول الجنوب أصبح في قلب الاستراتيجية الجيوسياسية للصين.
ونظرا لضخامة عدد دول العالم الثالث، فإن الحصول على دعمها مهم لجهود الصين من أجل السيطرة على المؤسسات الدولية أو احتوائها، من المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى الاتحاد الدولي للاتصالات. ورغم أن هذه المؤسسات لا تبدو مهمة جدا من الناحية الاستراتيجية، لكنها تلعب دورا حيويا في وضع قواعد ومعايير النظام العالمي.
وبالمثل فإن مبادرة الحزام والطريق الصينية تستهدف تعزيز العلاقات الصينية الاقتصادية والديبلوماسية والتكنولوجيا وفيما بعد العسكرية مع الكثير من دول العالم النامي. فمن منظور بكين، يعتبر بناء حزام نفوذ في العالم الجنوبي طريقا لتحقيق التكافؤ الجيوسياسي مع الولايات المتحدة.
في المقابل يقدر المسؤولون الأميركيون خطورة التحركات الصينية، فخلال سنوات حكم ترامب تحدث مسؤولون أميركيون كبار مثل وزير الخارجية ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي جون بولتون علانية على طابع «الامبريالية الجديدة» للصين.
ويعتبر إنشاء مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية استجابة أولية للتحركات الاقتصادية الصينية على الصعيد العالمي. كما أن الديموقراطيات الرئيسية الأخرى مثل أستراليا واليابان تعمق علاقاتها مع الدول الأخرى في جنوب المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا.
ومع ذلك فإن القروض ومشروعات البنية التحتية الصينية تنتشر في العالم، كما تجذب مبادرة طريق الحرير الرقمي العديد من الدول إلى أحضان الصين التكنولوجية، ومازال النفوذ الديبلوماسي لبكين يتمدد ولا يتراجع.
وفي المستقبل القريب سيصبح التحدي الصيني في العالم الثالث حقيقة استراتيجية تحتاج إلى تعامل منسق ومبتكر من الولايات المتحدة وحلفائها.
وسوف تتيح إقامة تحالف معزز بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والاتحاد الأوروبي للديمقراطيات الكبرى استخدام مواردها المجمعة بصورة أكثر استراتيجية لتعزيز النمو الاقتصادي والبنية التحتية في دول العالم الثالث.
كما أن تشكيل تحالف ديموقراطي في مجال التكنولوجيا بهدف تسهيل وتمويل مشروعات الاتصالات التي لا تعتمد على التكنولوجيا الصينية، سيقلل استخدام دول العالم الثالث لتقنيات شركة هواوي الصينية في شبكات الجيل الخامس للاتصالات على سبيل المثال.
كما أن جائحة ڤيروس كورونا المستجد، توفر فرصة جيدة لكي تعلن الدول الغربية الديموقراطية الغنية عن برنامج سخي لتوفير وتوزيع لقاحات كورونا للدول النامية، وهو ما سيكون خطوة جيدة من الناحية الأخلاقية، ومحاولة لمنع استغلال الصين لدبلوماسية اللقاحات من أجل تعزيز نفوذها في هذه الدول.
وبمرور الوقت سيكون على واشنطن وحلفائها التأكيد على أساليب الحكم الرشيد والإصلاح الديموقراطي في العالم النامي لأن التقدم في هذه المجالات سيجعل من الصعب على الصين إيجاد حكام مستبدين أو قادة انتهازيين تعقد معهم الصفقات.
ومع تشجيع التواصل الإيجابي كأفضل ضمانة للنفوذ الأميركي، على واشنطن وحلفائها إلقاء الضوء سواء بشكل علني أو بهدوء على الجوانب الأكثر استغلالية في الممارسات الصينية في دول الجنوب مثل استغلال الموارد الطبيعية لتلك الدول أو دعم الحكام المستبدين ورفض مبادرات تخفيف الديون على الدول الفقيرة.