منذ بداية العام، وتحديداً منذ وصول الرئيس الأميركي جو بايدن الى البيت الأبيض، ارتفعت درجة التوتر والتصعيد والمواجهة بين إسرائيل وإيران على 3 جبهات:
1 - الجبهة السورية:
عمدت إسرائيل الى مواصلة غاراتها ضد أهداف ومواقع إيرانية في العمق السوري، وبوتيرة مكثفة وعنيفة.
وأرادت إسرائيل عبر هذه الغارات توجيه رسالة مزدوجة: الى إيران أولا لتبليغها أن الضربات ضد «التموضع العسكري الإيراني» في سورية ستتواصل، وأن إسرائيل ماضية قدما في تنفيذ قرارها الاستراتيجي بإنهاء الوجود العسكري لإيران في سورية، ليس فقط في جنوب سورية وإنما في شرقها أيضا، والهدف هو قطع الطريق الاستراتيجي الذي يوصل من طهران الى بيروت عبر العراق وسورية، وعدم السماح لمشروع الربط بين هذه الدول أن يتم وأن يوصل الى إحكام القبضة الإيرانية على المنطقة.
أما الرسالة الثانية، فإنها موجهة الى «إدارة بايدن» وفحواها أن الغارات الإسرائيلية في سورية ستتواصل أيا تكن وجهة العلاقة بين طهران وواشنطن، وأن التغيير الحاصل في الولايات المتحدة لن يبدل في استراتيجية إسرائيل في سورية، وأن أي مفاوضات جديدة بين أميركا وإيران يجب ألا تقتصر على الملف النووي وأن تشمل أنشطة إيران في المنطقة.
وتجدر الإشارة الى أنه عندما أصدرت إسرائيل تقديراتها الاستراتيجية للعام 2021، كان في مقدمتها مواصلة العمل ضد التمركز الإيراني في سورية.
وعندما وضع فريق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لائحة مطالب الى الإدارة الأميركية الجديدة، كان على رأس هذه اللائحة تقييد مشروع إيران النووي وبرنامجها الصاروخي ونفوذها الإقليمي، ودعم إسرائيل في ضرباتها الهادفة الى إخراج إيران من سورية.
2 - «جبهة البحار»:
اندلع ما بات يعرف بـ«حرب السفن» بين إيران وإسرائيل، كان آخر فصولها استهداف إسرائيل سفينة إيرانية في البحر الأحمر الأسبوع الماضي، والرد الإيراني الذي لم يتأخر باستهداف سفينة إسرائيلية في الخليج.
فقد دخلت حرب الظل الإسرائيلية ـ الإيرانية في عمق البحار مرحلة جديدة بتأكيد طهران استهداف سفينة «لوجستية»، ارتبطت بأنشطة «الحرس الثوري» الإقليمية، بواسطة ألغام بحرية صغيرة قبالة أريتريا والسواحل اليمنية، وكانت تستخدم من قبل القوات الإيرانية في سياق ضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر.
وقالت مصادر عسكرية إسرائيلية إن سفينة الشحن الإيرانية هي بالأحرى سفينة تجسس لصالح «الحرس الثوري» الإيراني.
تقيم قبالة الشواطئ اليمنية وتعطي التوجيهات للحوثيين في حربهم ضد اليمن وتهدد الملاحة في البحر الأحمر.
وقال مصدر عسكري، في تصريحات للقناة 12 للتلفزيون الإسرائيلي، إن هذه الضربة هي واحدة من عشرات الضربات التي توجهها إسرائيل في عرض البحار، من البحر المتوسط إلى الأحمر وحتى الخليج، والتي تحظر النشر عنها.
ومن جهته، علق رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي عاموس يدلين قائلا: «صراعنا مع إيران ليس بالمجال النووي، وضد التمركز العسكري في سورية فقط، صراعنا كذلك في البحر الأحمر، والمحيط الهندي، وفي مجالات الجو والسايبر.
فحتى اللحظة يحرص الطرفان، إسرائيل وإيران، على عدم الدخول في مواجهة شاملة، وعدم إغراق السفن أو التسبب في إصابات بشرية».
وأضاف: «كان التخطيط لإلحاق الضرر بالإيرانيين، وإفشال استخباراتهم، ونشاطاتهم الأمنية والعسكرية، بدون الإنزلاق للمواجهة المباشرة معهم».
لم يتأخر الرد الإيراني باستهداف سفينة إسرائيلية في الخليج، وجاء متناسبا مع الهجوم الإسرائيلي من دون أن يسفر عن إصابات بشرية أو أضرار مادية جسيمة.
ومع ذلك، سارعت إسرائيل الى إتهام طهران وأوحت بأن الأمور بين الجانبين في المواجهة البحرية وصلت الى «نقطة الغليان».
وفي الواقع ثمة قلق مرتفع من الآتي، مع كثير من الأسئلة التي تكاد تخلو من إجابات حاسمة، وإن كان ما عبرت عنه إسرائيل، عبر مراسليها العسكريين والأمنيين، يشير إلى تبني تقدير حذر بأن الأمور باتت مفتوحة على مزيد مما سموه «الاعتداءات الإيرانية» التي قد لا تقتصر على الساحة البحرية، بل قد تنتقل إلى ساحات مواجهة أخرى.
ووفقا للمؤسسة الأمنية ووسائل إعلام إسرائيلية، فالمسألة محل للدراسة والتقويم، مع جلسات تقدير وضع استعداد للآتي، إذ إن الحادث بدأ ولم ينته بانتهاء استهداف السفينة.
ويتبين أن ثمة خلافا بين الأجهزة الأمنية والعسكرية، وكذلك السياسية، حول استمرار المعركة البحرية من عدمه، ومدى اتساقه مع المصالح الإسرائيلية.
ووفقا لمصادر أمنية في إسرائيل تحدثت الى موقع «واللا»، فإن هناك خلافات داخل الجيش الإسرائيلي، وكذلك بينه وبين الأجهزة الأمنية، حول طبيعة الرد المطلوب بعد الهجوم على السفن المدنية الإسرائيلية من قبل الإيرانيين.
وأوضحت المصادر أن المؤسسة الأمنية تنتقد الطريقة التي يدير بها الجيش الإسرائيلي الحملة ضد إيران، إذ لا يمكن تعريض المصالح المدنية الإسرائيلية للخطر.
3 - جبهة الملف النووي الإيراني
تواصل إسرائيل عملياتها الاستخباراتية الدقيقة في الداخل الإيراني.
وبعد أشهر على اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زادة، استهدفت إسرائيل، وللمرة الثانية في أقل من عام، منشأة «نطنز» بعمل تخريبي قالت مصادر إسرائيلية إنه أكثر من «تخريب سيبراني» وإنه تفجير لعبوات ناسفة في أعماق الأرض أدت الى ضرر كبير طال أجهزة الطرد المركزية، وستعيق أعمال التخصيب هناك لعدة أشهر.
وإثر هذه العملية، خرج القادة الإسرائيليون بتحذير طهران من مغبة الرد بضربة عسكرية، وقال رئيس الأركان أفيف كوخافي «إننا نقف متأهبين مع قدرة هجومية محسنة وجاهزة في أي وقت، وهم يشاهدون قدراتنا ويدرسون خطواتهم بحذر»، مشيرا إلى التدريبات المقررة الشهر المقبل، وقائلا: «بعد شهر سنجري تدريبا بحجم ضخم، لم يسبق أن جرت تدريبات مثله حتى اليوم.
وسيكون هذا عبارة عن شهر حرب، وسنتدرب خلاله على مختلف الخطط، وعلى أساليب القتال ومجمل القدرات العسكرية التي طورت».
وأضاف في تهديد مباشر: «نحن جاهزون لتحويل هذا التدريب إلى عملية عسكرية حقيقية».
الرد الإيراني على استهداف مفاعل «نطنز» لم يكن عسكريا، وإنما جاء «عمليا» بأن أعلنت طهران رسميا بدء تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% وتركيب ألف جهاز طرد مركزي إضافي في منشأة «نطنز».
وهذا الإعلان أقلق الأميركيين والأوروبيين كثيرا وأرخى بظلاله على مفاوضات فيينا، كما أدى الى إفساد الاحتفال الإسرائيلي بالضربة التي تريد أن تثبت طهران أن أضرارها ومفاعيلها محدودة، ولم تؤثر على برنامج إيران وقدرتها على العودة الى التخصيب.
أهمية الهجوم على «نطنز» تكمن في توقيته الذي صادف من جهة معاودة المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، ومن جهة ثانية وصول وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الى إسرائيل.
وهذا أول هجوم إسرائيلي في عهد بايدن، وهذا أول مسؤول أميركي رفيع يصل الى إسرائيل بعد تسلم بايدن.
ومن الواضح أن نتنياهو يقف وراء الهجمات المتعددة الأشكال على إيران برا وبحرا وفي المجال النووي، وهو يفعل ذلك لسببين وهدفين:
الأول: هو خدمة مصالحه السياسية والشخصية في أعقاب تعثر مساعيه لتشكيل حكومة جديدة، عبر اللجوء الى مبادرات وإنجازات أمنية وعسكرية لتعويم وضعه السياسي، والسعي ليكون التصعيد ضد إيران طوق نجاة له.
الثاني: هو التشويش والتخريب على مفاوضات العودة الى الإتفاق النووي وبعث رسالة مفادها أن إسرائيل، مستعدة لفعل أي شيء من أجل تعطيل الإتصالات بين إيران والولايات المتحدة بوساطة أوروبية في الطريق الى إحياء الإتفاق النووي وإلغاء العقوبات المفروضة على طهران.
وهذا التوجه من جانب نتنياهو يقابل بشكوك وانتقادات داخل إسرائيل، لأن هذه الهجمات يمكن أن تشعل المنطقة في وقت ليس لدى إسرائيل الدعم الأميركي الواضح.
ولأن هذا العزف الإسرائيلي المنفرد يمكن أن يثير مشاكل وخلافات مبكرة مع إدارة بايدن. ولذلك حملت زيارة أوستن الى إسرائيل رسالة مفادها أن الولايات المتحدة تريد لجم إسرائيل والتأكد من أنها لا تعتزم استهداف جهودها باستئناف المسار الديبلوماسي من قبل إيران في فيينا.
وكذلك، أرادت واشنطن إعطاء إسرائيل تطمينات بشأن تعميق الشراكة الدفاعية الطويلة الأمد ضد التهديدات الإقليمية والتحديات الأمنية، وبشأن دعم جهود التطبيع بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية.
وثمة علاقة بين «حادثة نطنز» ومفاوضات فيينا. وبعدما كانت إسرائيل أعربت بشكل رسمي عن مخاوفها مما قد يؤول إليه هذا المسار لناحية تلبية مطالب إيران، اندفع نتنياهو إلى التأكيد أن تل أبيب غير ملزمة بأي اتفاق مع طهران.
ومن هنا، يكون الهدف المباشر لتعطيل «نطنز» محاولة سلب إيران إحدى أهم أوراق الضغط التي تملكها على طاولة المفاوضات، ومنح الطرفين الأوروبي والأميركي أوراق ضغط مضادة.
وفي الوقت نفسه، هامشا للمناورة والمماطلة، وإخراجهما من الحرج الناتج من ضغط الوقت الذي يتعاظم بفعل استمرار تطور البرنامج النووي الإيراني، على أمل أن يؤدي كل ذلك إلى قطع الطريق على أي اتفاق يؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران.
ولكن الأوروبيين يحذرون من أن التطورات الأخيرة في المنطقة غير إيجابية بالنسبة الى مفاوضات فيينا وأرخت بظلال كثيفة عليها.
وإذا كانت إسرائيل تعمل على تخريب وإفشال هذه المفاوضات، فإن إيران تساعدها من حيث تدري أو لا تدري في تحقيق هذا الهدف. وتعتبر مصادر ديبلوماسية أوروبية أن الضربة الإسرائيلية لها هدفان رئيسيان:
الهدف الأول عملاني، بمعنى تأخير وإعاقة تقدم البرنامج المذكور، الأمر الذي ينظر إليه على أنه امتداد «لما قامت به في السابق، أكان في اغتيال «الأب» للبرنامج محسن فخري زاده في شهر يناير الماضي، أو التسبب بحريق واسع في «نطنز» في شهر يونيو من العام الماضي.
وفي أي حال، فإن «الحرب السيبرانية» تسير بالتوازي مع «حرب السفن» الجارية بين إسرائيل وإيران.
والهدف الثاني سياسي وفحواه دفع المفاوضين الغربيين لعدم التراجع أمام الضغوط الإيرانية، التي كان آخر تجلياتها وبعد يوم واحد من استئناف محادثات فيينا، إعلان طهران عن نصب أجهزة الطرد المركزي الحديثة وتأكيدها الاستمرار في ذلك حتى تتجاوب واشنطن وترفع كل العقوبات التي فرضت عليها منذ 2018.
وبأي حال، فإن الطرف الأوروبي ينظر إلى «حادثة نطنز» على أن غرضها الأول نسف مسار فيينا.
ولكن الأوروبيين يتخوفون من إجراءات ومبادرات طهران نوويا، ويعتبرون أن استمرار طهران في التحلل من التزاماتها، فيما المفاوضات جارية، من شأنه إحراجها مجددا، وأن الضغوط يمكن أن تفضي في زمن ما إلى نتائج معكوسة.