لا شك أن الإيمان بالله يتفاوت بدرجاته بين الناس، فليس الجميع على خط سير واحد، فالكل متفاوت في الأعمال والأقوال والنيات، فمنهم من يؤدي الفرائض بالمقايضة لا زيادة ولا نقصان، ومنهم من يزيد على ذلك وينقص أجره بالخوض في الفتن، ومنها التلفاز واللهو واللغو والإسراف في الطعام وقتل الأوقات بالمشي ليلا، والانشغال بالتجمعات رغم الأوضاع التي نعيش فيها من حظر وغيره، لكن تبقى ثلة من الناس يحرصون على هذا الشهر بالاجتهاد المطلق في صد الفتن والبعد عنها والتفرغ للعبادة في هذا الشهر المخصوص، فهناك من الأبعاد النفسية والروحانية التي لا يفقه لها الكثير من المسلمين لأهمية هذا الشهر، ولماذا جعل الله عز وجل فيه الأجر أضعافا مضاعفة؟ ولماذا حث الإسلام على الاجتهاد بالعبادة؟ ولماذا خصه الله عز وجل بأيام مطلقة تابعة للتقويم الهجري وليس للميلادي، ليكون شهر الصيام في جميع فصول السنة؟ ولماذا يرفع الله الذين يعملون الصالحات والقاعدين درجات؟ ولماذا جعل العبادة فوزا بالجنة ونجاة من النار؟ كما أن هنــاك أسئلة كثيرة، وإجابة الأسـئلة السابقة تكون واحدة فيما يلي.
يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ثم يقول، «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
إن الإنسان مخلوق قد فضله الله على سائر خلقه، فقد خلقه من طين والطين قابل للتشكل، ونفخ فيه من روحه، فالإنسان نفخة من روح الله، وهي الأمانة التي حملها الإنسان وكان ظلوما جهولا، لقوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) «الأحزاب: 72»، وعليه حتى يرتقي الإنسان ويسمو في تقواه يجب عليه الحفاظ على الأمانة التي هي الروح المتصلة بجسد مأمور بالعبادة والأعمال الصالحة، والتي شبهها العلماء بالعود الأخضر، وحتى يبقى ذلك العود زاهي اللون متجددا زكي الرائحة لابد من القيام بالفرائض وزيادة، والاستمرارية على شحن الروح بالذكر الدائم لتبقى نشطة والنفس طرية، لكونها خلقت من طين، والطين لكي تحافظ على جودته وطراوته لابد من حفظه بمكان رطب، ولكن إن تم الإنسان يلهو ويلغو بعيدا عن ذكر الله فإن قلبه يتحجر إلى أن يصبح قاسيا والقساوة تكون بظلمه وجهله، وهذا حال الطين فإن تركته في الهواء الطلق ييبس إلى أن يصبح كالفخار القاسي القابل للكسر، والروح تظل خبيثة بدرجات متفاوتة، وهذه هي حقيقة الإنسان، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».
فأولو الألباب هم من يفقه كل منهم حقيقة ما سبق، ويعلم أن رمضان هو تزكية للنفس البشرية في الإكثار من الأعمال الصالحة والأقوال لكي يسمو بأمانته كأنه ولد من جديد، ورمضان هو إعادة تدوير لحياة الروح في الدنيا من أجل هدف سام وهو «والعاقبة للتقوى»، وأهم ما ينزه به الإنسان نفسه هو التخلق بأسماء الله وصفاته العلا، وها نحن مقبلون على العشر الأواخر، فعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، أحيا الليلة، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر».
family_sciences@