قراءة ما يحدث في الدول العظمى، ليس «ترفا فكريا» ولا علاقة له بتسلية من هنا أو تمضية للوقت من هناك، لأن عالم «الكبار الدوليين» هو مدرسة تعليمية لمن يريد الانطلاق من جديد في خط صناعة «التنمية الحقيقية»، ولذلك السؤال المطروح وهو كيف يفكر هؤلاء من حولنا؟ هو من الأمور المهمة، لمعرفة الأولويات لديهم، والرغبات عندهم وكذلك ردود أفعالهم، ومن كل هذا وذاك، نستطيع نحن كـ «عرب» في العموم، وكـ «خليجيين» في الخصوص، استخراج الدروس وبناء خارطة طريقنا «نحن» لصناعة «نهضة مفقودة» وتقدم «متوقف» في واقعنا.
في عالم «الكبار» من الدول العظمى، جاء الخطاب السنوي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الجمعية الاتحادية (البرلمان الروسي) في تاريخ 21-4-2021، وهو خطاب «مميز» لأنه جاء ضمن ترقب إعلامي عالمي واسع نتيجة للأوضاع الجيوسياسية المحيطة حول روسيا وكذلك استمرار وباء الكورونا وتبعاته، فالكل «انتظر» والجميع «ترقب» وهنا ألقى الرئيس بوتين «المفاجأة» وقدم «الدرس» لمن يريد أن يسمع!؟ حيث جاء الخطاب خارج كل التوقعات والتكهنات حيث ركز «بوتين» على الوضع الداخلي الروسي ضمن ثلاثة محاور أساسية:
الأول كان الصحة: حيث تعهد بزيادة عدد الأسرة إلى أكثر من خمسة أضعافها لتصل إلى مائتين وثمانين ألف سرير، وكذلك زيادة سيارات الإسعاف في المناطق الريفية بواقع خمسة آلاف سيارة، وتحدث عن تطوير ثلاثة أنواع مختلفة من اللقاحات الروسية الصنع والمنشأ، وركز أيضا على صحة الأطفال ومشاركتهم في المجتمع.
في المحور الثاني كان التعليم: حيث هناك خطة لإنشاء ألف وثلاثمائة مدرسة جديدة في غضون الأربع سنوات القادمة، وزيادة لرواتب المعلمين، مع زيادة الإنفاق على الجامعات، والمكتبات العامة والمراكز الاجتماعية، وأيضا هناك خطة لوضع وجبات غذائية «مجانية» في جميع المؤسسات التعليمية، وأيضا ستكون هناك حوافز لزيادة نسبة الطلبة في التعليم الجامعي «المجاني».
المحور الثالث كان الإسكان: وارتكز «بوتين» على مبدأ رئيسي وينص على زيادة عدد المساكن لخلق «حالة عرض» اكثر من «الطلب» خدمة للعائلات الروسية وتعزيز لقدرتها في الحصول على مسكن ملائم، وهذا تكملة لما تحقق داخل روسيا في العام الماضي، حيث استطاعت «الدولة» هناك بناء ثمانين مليون متر مربع من المباني السكنية، وحيث هدفها القادم هو زيادة العدد إلى مائة وعشرين مليون متر في كل سنة ميلادية، أيضا ستكون هناك ميزانية «خاصة» لإعطاء القروض الميسرة، لأي «شركة» تتجه لمشاريع بناء منازل سكنية، وهذا أيضا تعزيز للطبقة التجارية وتفعيل للدورة الاقتصادية، ومحاولة خلق تناغم مطلوب وصحي بين الطبقات الشعبية والتجارية، بما يخلق نهضة للمجتمع وسعادة «للعائلة الروسية».
إن «درس بوتين» هو أن «الأمن الحقيقي» هو في تعزيز «دولة الرعاية» والحفاظ على «العائلة الروسية» وخلق طبقة تجارية فاعلة متناغمة مع مصالح «العائلة الروسية» ولا تتضارب معها ضمن واقع مؤسساتي يريد النهضة ويسعى للحضارة يعيش التخطيط والتطبيق الواقعي في خط التنفيذ على الأرض، والتركيز على «الداخل» كأساس مقاومة أي طارئ «خارجي»، وأي عامل يحاول «هدم الدولة» والتأمر عليها أو إسقاط «المجتمع».