على الرغم من أن الولايات المتحدة تسعى على ما يبدو إلى إعادة ترتيب أولويات سياستها الخارجية من خلال خفض مستوى انخراطها في الشرق الأوسط، والتركيز بشكل أكبر على آسيا لمواجهة التحديات التي تفرضها دول كبرى اخرى، تظل قضايا المنطقة وفي القلب منها القضية الفلسطينية تمثل عنصرا جوهريا يحتاج إلى دور أميركي أكثر حسما للحيلولة دون الاصطدام بخيارات أكثر سوءا وربما بتكلفة أكبر.
ويقول الديبلوماسي الأميركي المخضرم، دينيس روس، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية، إن الشرق الأوسط لديه وسيلة تجعله يفرض نفسه على الرؤساء الأميركيين وإداراتهم، ويتجلى هذا الأمر مع الرئيس جو بايدن.
وأوضح روس، الذي كان الرجل الأول لعملية السلام في الشرق الأوسط أثناء ولاية إدارة كل من جورج بوش الأب وبيل كلينتون، حيث كان يعمل عن كثب مع وزراء الخارجية جيمس بيكر ووارن كريستوفر ومادلين أولبرايت، أنه من خلال ست مكالمات هاتفية مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ومكالمات مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أدرك بايدن أنه مهما كانت آماله، فإن مشاركته الشخصية كانت ضرورية للمساعدة في التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة.
وأشار روس، الذي عمل أيضا مساعدا خاصا للرئيس الأسبق باراك أوباما ومستشارا خاصا لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، أنه في حين أن زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن للشرق الأوسط لم تكن على جدول أعماله في الوقت الحالي، فقد شعر بالحاجة إلى الذهاب إلى المنطقة في محاولة لتعزيز وقف إطلاق النار بعد حرب الأيام الـ11، وتلبية الاحتياجات الإنسانية واحتياجات إعادة الإعمار في غزة، وإقامة مسار ديبلوماسي لإدارة العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية وإعادة الالتزام بإقامة دولتين للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
ويقول روس: «إنني كشخص تفاوض مع الطرفين لعقود، أعرف أن كل مهمة من هذه المهام تنطوي على تحدياتها الخاصة. ومن المفارقات أن أقلها صعوبة هو تعزيز وقف إطلاق النار».
ويضيف: «صحيح أن وقف إطلاق النار لم يتم فيه الاتفاق على شيء سوى كف إطلاق الأسلحة، ولكن الحقيقة هي أن كلا الجانبين كان لديه سبب للتوقف. فحركة حماس تدفع ثمنا باهظا من حيث بنيتها التحتية العسكرية، وقد حققت بالفعل ما تعتزم القيام به، وهو فرض ثمن على إسرائيل ردا على الأحداث في القدس وجعل حماس النقطة المحورية للقضية الفلسطينية أكثر من السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية».
ومن جانبها، نجحت إسرائيل أيضا عسكريا فيما كانت ستحققه إلى حد كبير من خلال الهجمات الجوية، فقد دمرت منشآت إنتاج صواريخ حماس وجزءا حاسما من شبكتها من الأنفاق التي تحمي أسلحة الحركة ومقاتليها ووسائل استخباراتها، وحتى بعض قادتها. ومن شأن الضربات الإضافية، في أحسن الأحوال، أن تسفر عن نتائج متضائلة في وقت كان فيه الرأي العام الدولي ينقلب بالفعل بقوة ضد إسرائيل.
ومع ذلك، وحتى عندما يكون إنهاء الاعتداءات الاسرائيلية في مصلحة الطرفين، فإن وقف إطلاق النار لم يحدث بالضرورة من دون وسيط وتدخل خارجي، وقد لعبت مصر وإدارة بايدن هذا الدور في خلق غطاء وضغط وتوضيح للجانبين.
ويتساءل روس: ماذا عن تلبية الاحتياجات الإنسانية وإعادة الإعمار؟ ويقول إنه قبل أن يتعرض مدير الأونروا في غزة ماتياس شمالي لانتقادات بسبب تعبيره عن الحقيقة، اعترف بأن الضربات الإسرائيلية، وإن كانت وحشية، كانت دقيقة، وأنه مع فتح معبر كرم أبو سالم، لم يكن هناك نقص في الغذاء أو الوقود أو الأدوية في غزة.
غير أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة الإعمار، مع وجود 77 ألف شخص إضافي من سكان غزة بلا مأوى والبنية التحتية عموما، والمياه والصرف الصحي بصفة خاصة، في حاجة ماسة إلى الإصلاح وإعادة البناء. وهنا، وبحسب روس، يكمن التحدي الحقيقي، وهو كيف نعيد إعمار غزة ولا تقوم حماس بتحويل المواد اللازمة لذلك لصالح إعادة تسليحها. واعترف وزير الخارجية بلينكن بهذه المشكلة، مؤكدا عندما كان في القدس: «سنعمل مع شركائنا... لضمان عدم استفادة حماس من مساعدات إعادة الإعمار».
لكن روس يقول إن هذا لن يكون سهلا وجرت محاولة مماثلة في أعقاب النزاع في عام 2014، باستخدام آلية إعادة إعمار غزة وفشلت. وصحيح أن التعهدات بتقديم أموال إعادة الإعمار لم يتم الوفاء بها، ولكن ذلك يرجع جزئيا على الأقل إلى الفشل في منع تحويل المواد وتعزيز حماس لوضعها العسكري.
لكن على أي حال، هناك بالتأكيد حاجة إلى جهد دولي، تحشده الولايات المتحدة على أفضل وجه، لجمع الأموال من أجل إعادة إعمار غزة، وكذلك لوضع آلية دولية للإشراف على ما يأتي إلى القطاع، ونقله إلى المستودعات، ومن ثم استخدامه النهائي في مواقع البناء.
ويقول روس إن حماس سوف تقاوم ذلك، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن القضية سوف تصبح قضية إعادة إعمار غزة مقابل إعادة تسليح حماس.
ويضيف أنه بدون فرض شروط صارمة، لن تكون هناك إعادة إعمار جادة، «فلن يستثمر أحد على نطاق واسع في إعادة الإعمار إذا تمكنت حماس من تحويل المواد، وإعادة بناء ترسانتها، وإشعال حرب عندما تناسب أهدافها المتمثلة في الاستيلاء على الحركة الوطنية الفلسطينية».
وأخيرا يخلص روس إلى أنه إذا أثبتت الأسابيع القليلة الماضية أي شيء، فهو أن القضية الفلسطينية لن تزول.
ويقول إن إدارة بايدن لا تريد أن يستهلكها الشرق الأوسط، لكنها تحتاج أيضا إلى القيام بما يكفي لإدارة ما يحدث في المنطقة لتجنب الانجرار إليها، في ظروف توفر خيارات أسوأ بتكاليف أعلى.