شنت القوات الأميركية هجوما جويا قبل أيام على مواقع لميليشيات عراقية موالية لإيران وتتمركز على الحدود بين سورية والعراق.
وقد طالت إحدى الضربات مواقع تلك الميليشيات داخل الحدود العراقية، وأخرى في سورية، تستخدم لتخزين الأسلحة التي تستعمل طائرات من دون طيار «درون»، وهي السلاح الأحدث الذي بدأت تطوره الفصائل المسلحة.
هذه الضربة الأميركية، الثانية من نوعها منذ وصول جو بايدن الى البيت الأبيض، تندرج ضمن الأهداف والأطر التالية:
1- رد مباشر على الهجمات الأخيرة التي نفذت بأربع طائرات «مسيرة» استهدفت مناطق على أطراف أربيل قريبة من مبنى القنصلية الأميركية الجديدة في عاصمة إقليم كردستان.
وبالتالي، فإن الهجوم الأميركي يندرج في إطار الدفاع عن النفس، وتنفيذ بايدن لتعهده بالعمل على حماية الأميركيين، وحيث لا يمكن لهم أن يبقوا مكتوفي الأيدي إزاء هجمات ضد قواعدهم ومصالحهم، متواصلة ومتنقلة.
2 - «رسالة ردع» من خلال ضربة عسكرية تأتي في سياق أساسيات «قواعد الاشتباك». وهذه الرسالة يوجهها الأميركيون من خلفية أمرين ضاغطين:
- الأول يتعلق بالانزعاج من تمادي الهجمات ضدهم والقلق من ظهور الطيران المسير واستخدامه ضد القوات الأميركية.
وهذا السلاح الجديد يعده الأميركيون تغييرا في قواعد الاشتباك لمصلحة القوى المعادية أو المناهضة لهم، خصوصا أن هذه المسيرات التي يجري إطلاقها في الليل عادة لا يمكن معالجتها تقنيا لأنها تحلق على ارتفاعات منخفضة، بحيث لا يمكن للرادارات الأميركية التقاطها.
وبالتالي، فإن واشنطن تعتبر ما يجري تصعيدا نوعيا للحملة ضدها، وأن التقنيات المستخدمة آخذة في التطور.
- الأمر الثاني يتعلق بالضغوط والانتقادات التي يتعرض لها الرئيس بايدن من داخل الولايات المتحدة، ليس فقط بسبب تساهله في المفاوضات مع إيران واستعجاله العودة الى الاتفاق النووي بأي ثمن، ولكن أيضا بسبب عدم الرد على التحرشات والهجمات التي تستهدف الوجود الأميركي في عدد من القواعد العسكرية في العراق، لاسيما «فيكتوري» و«عين الأسد»، وقبل ذلك قاعدة مطار أربيل.
ولما كانت إدارة بايدن مدركة أن الحكومة العراقية لا يمكنها احتواء هذه الهجمات، فإنها تجد نفسها مضطرة كل فترة الى القيام بهذا النوع من الضربات النوعية في الداخل العراقي والسوري، مع علمها أن مثل هذه الضربات تشكل إحراجا كبيرا لحكومة مصطفى الكاظمي.
3 - رسالة سياسية الى إيران عبر «البريد العسكري» لإشعارها بالتوقف عن دعم وتشجيع مثل هذه الهجمات ضد المصالح الأميركية في العراق، وعن استخدام وسائل الضغط العسكري في المفاوضات «النووية»، خصوصا وأن هذه الهجمات تأتي في وقت دقيق ومحفوف بالمخاطر، إذ تعمل واشنطن على إعادة طهران الى خطة العمل الشاملة المشتركة «الاتفاق النووي» مع استمرار المحادثات في فيينا.
فإذا كان الهجوم يرمي الى ضرب منشآت الميليشيات المتحالفة مع ايران لتقويض محاولاتها في تشكيل تهديد قائم في المنطقة الحدودية العراقية - السورية، وحتى لا تصبح مركزا لإنتاج الطائرات من دون طيار، فإنه يرمي أيضا الى توجيه رسالة لإيران مفادها أن واشنطن لن تتسامح مع تصاعد الاعتداءات، في وقت يعيد الطرفان النظر في الاتفاق النووي الإيراني، خصوصا وأن التصعيد العسكري يترافق مع وسائل ضغط وتصعيد أخرى تعتمدها إيران، منها مثلا عملية لي الذراع القائمة حاليا بين الوكالة الدولية للطاقة النووية وطهران حول تمديد العمل بالاتفاق التقني الخاص بتواصل عمليات الرقابة على الأنشطة النووية.
وترى مصادر ديبلوماسية غربية أنها وسيلة ضغط ليس على الوكالة بل على المفاوضين في فيينا، وتحديدا الأميركيين، سعيا لانتزاع تنازلات إضافية ترفض واشنطن حتى اليوم التجاوب معها.
كذلك تضغط إيران من خلال التلويح بالانسحاب من المفاوضات والاستمرار في تخصيب اليورانيوم عالي النقاء (بنسبة 60%) بعيدا عن أعين كاميرات المراقبة، مقرونا باستمرار نشر أجهزة الطرد المركزي من الجيل الجديد التي تتميز بسرعة التخصيب ونسبته المرتفعة وزيادة الكميات المنتجة.
في الواقع، تمارس إيران منذ الانتخابات الرئاسية سياسة متشددة عكستها المواقف المبكرة للرئيس الجديد إبراهيم رئيسي، والتي قطع فيها الطريق على أي مفاوضات خارج الاتفاق النووي، وتتعلق ببرنامج إيران الصاروخي ودعمها الميليشيات ودورها الإقليمي، إضافة الى تأكيدات رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف أن الاتفاق التقني «انتهى».
ويضاف الى هذه المواقف السياسية، تفعيل المواجهة ضد الوجود الأميركي في العراق والإفادة من الضربات الأميركية لقوى الحشد الشعبي وحزب الله العراقي لتعبئة الشارع والموقف السياسي والرسمي في العراق ضد الوجود الأميركي.
وبعدما كان الحشد الشعبي موضع سجال وخلاف، أعادت الضربات الأميركية توحيد الأحزاب والقيادات الشيعية واحتضانها له، في وقت شجب الكاظمي الضربات الأميركية كتعد على السيادة العراقية.
ويضاف الى كل ذلك أن إيران لم تجد حرجا في نقل ساحة المعركة الميدانية من العراق الى الداخل السوري، ولم تكد تمر ساعات على الضربات الأميركية ضد «الحشد الشعبي» حتى جاء الرد من حيث لم تحتسب واشنطن وباستهداف هو الاول من نوعه لإحدى قواعدها في حقل العمر النفطي بمنطقة شرق الفرات.
ما يجري على أرض العراق وعبره من تبادل للرسائل هو مؤشر على حدة المعركة التفاوضية الجارية في فيينا، وعلى صعوبات تواجهها. وهنا تنظر مصادر ديبلوماسية الى مجريات مفاوضات فيينا بكثير من الحذر. وترصد
مصادره وجود مطالب متناقضة إيرانيا وأميركيا يصعب التوفيق بينها، خصوصا في ظل وجود ضغوط على إدارة بايدن داخليا وخارجيا. وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته جولات المفاوضات الست، فإن 4 مواضيع خلافية مازالت من الجانب الإيراني تعيق التوصل إلى اتفاق. اذ تطالب طهران ضمانات أميركية تمنع واشنطن من معاودة الخروج من الاتفاق، وفرض عقوبات مرة أخرى.
والأمر الثاني قبول واشنطن بأن تكون الوكالة الدولية هي الحكم في موضوع التزام إيران بتعهداتها وتنفيذ بنود الاتفاق، ما سيحرم واشنطن من حرية الحركة أو العودة إلى استخدام الإجراء المسمى «سناب باك».
والثالث إصرار إيران على امتناع واشنطن عن استخدام قانون عقوبات عابرة للحدود التي ترغب في التعامل بها مع طهران، في حال خروجها مجددا من الاتفاق.
وتبقى المطالبة برفع كامل العقوبات النووية وغير النووية، بما فيها المفروضة على المرشد الأعلى علي خامنئي ومكتبه وشخصيات إيرانية منهم الرئيس المنتخب رئيسي، والتأكد بعد مهلة زمنية من تنفيذ الالتزامات الأميركية، قبل أن تتراجع طهران عن انتهاكاتها.
وفي المقابل، ترفض واشنطن حاليا، الشرط الأخير، ويبدو أنها ترهن المتبقي من العقوبات بمفاوضات لاحقة حول ملفات حقوق الإنسان والإرهاب والباليستي الإيراني وسياسة طهران الإقليمية، كما أنها تريد التأكد من إعادة البرنامج النووي إلى ما كان عليه في عام 2015. وهذا المطلب سيكون عمليا صعب التنفيذ.
والسؤال المطروح: ما العمل بالمعارف والمهارات التقنية الجديدة التي اكتسبتها إيران منذ ذاك التاريخ (تخصيب عالي النسبة، وأجهزة طرد حديثة، وصواريخ بعيدة المدى)؟ هذا غيض من فيض، وهو يحتاج إلى كثير من الديبلوماسية لردم الهوة الفاصلة بين طرفين يفتقدان بالدرجة الأولى إلى الثقة بينهما، ما يجعل مصير المفاوضات، حتى اليوم، مجهولا، على الرغم من رغبة الاثنين في التوصل إلى تفاهم.