في نهاية العام الحالي، ألمانيا ستختار، وأوروبا ستترقب مرحلة جديدة في تاريخها السياسي والاقتصادي، والعالم سينتظر القيادة الجديدة التي ستخلف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، «المرأة الحديدية» التي خاضت الحياة السياسية منذ العام 1989، وأصبحت ألمانيا في عهدها طوال 18 عاما أقوى اقتصاد ساهم بصورة كبيرة في الحفاظ على اقتصادات العديد من الدول الأوروبية من الانهيار، وحققت خلال ولايتها نجاحات باهرة في المجالات كافة، خصوصا في المجال الاقتصادي، وتميّزت بالمواقف الصارمة والمنهج العلمي الحاد في القيادة، وهو ما جعل ألمانيا تصمد أمام الأزمة الاقتصادية العالمية التي أصابت أغلب دول أوروبا بالركود، ووضعت أخرى على حافة الإفلاس.
وتغادر ميركل بشعبية تاريخية غير مسبوقة، إذ قدمت خلال ولايتها نموذجا راسخا للقيادة الأخلاقية في عالم قلّت فيه تلك القيم، ووقوفها بحزم ضد الاستبداد.
ينشغل كثيرون بمعرفة اسم من سيخلف ميركل في قيادة ألمانيا وفي المستشارية بعد انتخابات 26 سبتمبر المقبل.
ومن الأسماء المرشحة لخلافة ميركل التي ستجد نفسها في مأزق وتحد كبيرين لملء الفراغ الذي ستتركه، والكاريزما السياسية التي تميزت بها، أرمين لاشيت رئيس الحزب المسيحي الديموقراطي، وآنالينا بيربوك زعيمة «الخضر».
٭ أرمين لاشيت (59 عاما) وريث محتمل لميركل بعدما فاز برئاسة الحزب، وهو الذي يعرف بهدوئه الشديد وبراغماتيته، وترحيبه باللاجئين. وهو سياسي محترف على غرار ميركل، حيث ينتمي لمدرستها السياسية.
وبما أن حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي المحافظ يحل أولا في استطلاعات الرأي، فأمام لاشيت فرصة كبيرة بأن يكون هو من يحكم ألمانيا بعد ميركل، في حال تخطيه بعض العقبات، فهو يحمل أفكارا خاصة في مجال السياسات الخارجية، خاصة فيما يتعلق بروسيا والصين وسورية، وتبدو مقلقة للأحزاب الألمانية الأخرى لأنها تشكل خطرا أمنيا على ألمانيا وأوروبا، وتضع ألمانيا في مواجهة إدارة جو بايدن.. أما بالنسبة الى سورية، فإنه دافع عن النظام السوري والرئيس بشار الأسد عام 2014، وقال إنه يؤيد أي ضربات جوية تستهدف «داعش» في سورية وإن كانت تصب في مصلحة الأسد، منتقدا دعم الولايات المتحدة فصائل سورية معارضة، مشيرا الى أن سورية في ظل حكم الأسد دولة أوتوقراطية، لكنها سمحت للديانات والمذاهب المختلفة مثل المسيحية والشيعة والعلوية واليهود مساحة للتنفس.
ولو أطيح بالأسد، كما تريد بعض الدول الغربية، لكان «داعش» في دمشق الآن، ليس بعيدا عن الحدود مع إسرائيل.
وفي العام 2015، دافع عن الوجود الروسي في سورية، إذ كتب تغريدة قال فيها «لماذا يعتبر انتشار روسيا ضد «داعش» مقلقا بينما الضربات الجوية الغربية مفيدة؟ الحل الوحيد في سورية هو مع روسيا».
٭ آنالينا بيربوك (40 عاما) زعيمة «الخضر» الطامحة الى خلافة ميركل. للمرة الأولى منذ تأسيس حزب «الخضر» البيئي في ألمانيا قبل 41 سنة، يعلن هذا الحزب مرشحا له لمنصب المستشارية.
وللمرة الأولى، يصعب تخيل الحكومة المقبلة في ألمانيا من دون أن يكون حزب «الخضر» شريكا أساسيا فيها، إن لم يكن هو من يقودها.
تشكل بيربوك رمزا للتجديد والشباب في الانتخابات المقررة خلال سبتمبر المقبل في ألمانيا.
ويقال إن ميركل، التي فشلت في إيصال مرشحتها المفضلة آنغريته كرامب كارنباور إلى الحكم لخلافتها، تمسك بيد بيربوك، المرأة الوحيدة الآن في السباق لخلافتها، تمهيدا لتسليمها الشعلة.
ولكن منذ حصول بيربوك على ترشيح حزبها في أبريل الماضي، بدأت تظهر تحديات وعقبات أمامها خففت تألقها، إلى درجة باتت تقلق الحزب البيئي من أن تؤثر على شعبيته وتمنعه من الوصول للسلطة التي باتت في متناول اليد.
آنالينا بيربوك، كانت ولاتزال من المساهمين في تحويل «الخضر» إلى حزب أكثر واقعية يعتمد أحيانا سياسات خارجية أكثر صرامة حتى من الديموقراطيين المسيحيين، خاصة فيما يتعلق بالصين وروسيا.
وهي منذ انتخابها زعيمة للحزب، تصعد لهجتها تجاه بكين وموسكو متعهدة بأخذ مواقف أشد صرامة منهما في حال دخلت السلطة.
فهي تصف الصين بأنها دولة ذات نظام استبدادي، وتدعو للوقوف في وجهها، خصوصا فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان وما تعتبره سوء معاملتها لأقلية الإيغور المسلمة.
وتتبنى زعيمة «الخضر» موقفا أكثر تشددا من روسيا، وتذهب إلى حد معارضة مشروع أنابيب غار «نورد ستريم 2» الذي ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر البحر.
والمعروف أن الحكومة الحالية تتمسك بالمشروع، وميركل نفسها دافعت عنه مرارا في وجه انتقادات أوروبا وأميركا التي تخشى تأثيرا روسيا متصاعدا على برلين.
مقاربة بيربوك الداعية لصرامة أكثر مع روسيا، عرضتها لحملة تشويه وتجريح شخصي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يديرها على ما يبدو الكرملين، بهدف منع حزب «الخضر» من دخول السلطة.
كما تواجه حملة تشويه كانت قد بدأت أصلا من الداخل الألماني، من حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف الذي يروج لعلاقات أقرب مع موسكو.
وتستغل موسكو الشرخ الداخلي لزيادة الانقسام والتأليب ضدها. وعلى رغم كل ذلك، مازالت آنالينا بيربوك قادرة على تقديم نفسها على أنها وجه جديد في السياسة الألمانية، وتشكل تغييرا عن الوجوه القديمة التقليدية.
بحلول سبتمبر المقبل تصبح ألمانيا، ومن خلفها أوروبا، من دون «السيدة الحديدية» التي اعتادت أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة في كل مشكلة تواجه بلادها، كما التكتل الأوروبي الأوسع.
ولا شك في أن غياب ميركل سيشكل حدثا مفصليا، في ظل الخشية الألمانية والأوروبية من العجز عن ملء الفراغ الذي ستخلّفه، أو قلة كفاءة من سيخلفها في المحافظة على تماسك التكتل الأوروبي.
في الواقع، إن أي مستشار جديد لألمانيا سيواجه مشاكل عديدة، منها عدم وجود رؤية مشتركة للدول الأوروبية حول مشاكل بسيطة مثل جواز السفر الأخضر، وهل السفر بين دول الاتحاد وخارجه يلزم صاحبه بالحصول على لقاح «كوفيد ـ 19»؟ وحتى اليوم لا يوجد اتفاق على فكرة أن يكون للأوروبيين مشروعهم الأمني الخاص بهم مثل «الجيش الأوروبي الموحد»، ناهيك عن الخلافات بين الأوروبيين حول استيعاب المهاجرين الجدد وضرورة العمل باتفاقية دبلن التي تلزم الدولة الأولى التي يصل إليها المهاجر بتحمل بقائه فيها، وكلها قضايا لا يوجد اتفاق حولها سواء بين ما يسمى بدول «البوابات» مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا، أو بين الدول التي يريد المهاجرون الذهاب إليها مثل ألمانيا وهولندا وفرنسا.
لا شك في أن تقاعد ميركل سيجعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أهم زعيم في أوروبا. وهذا يعني صعوبة أكبر في ترتيب العلاقات مع الولايات المتحدة، وزيادة الشكوك حول فاعلية حلف شمال الأطلسي، وموقفا تصادميا تجاه تركيا، ونهجا أكثر تدخلا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. باختصار، هذا يعني تغييرا كبيرا في القيادة الأوروبية بشأن دور الاتحاد الأوروبي في العالم.
وبالتالي هل سيبرز في ألمانيا من يقف مع ماكرون على قدم المساواة في معالجة الملفات، علما أن ميركل كانت تقف أمام الرئيس الفرنسي وليس إلى جانبه.
ثمة من يعتقد أن ماكرون سيفشل من دون ميركل أو شريك قوي محتمل في برلين ومهتم بالقضايا الأوروبية، إذ إن ماكرون شخصية أكثر إثارة للانقسام، ولديه أفكار أكثر طموحا، لكنها أيضا مثيرة للجدل، حول إصلاح الاتحاد الأوروبي.
صحيح أن ماكرون، وبخلاف أسلافه، استطاع إعادة فرنسا إلى واجهة القيادة في أوروبا من خلال الاستفادة من التقلبات الجيو-سياسية واستقطاب ميركل للعمل معا، لكن مغادرة المستشارة واقتراب الانتخابات الفرنسية التي تدل الإشارات، حتى الآن، على دور صاعد لليمين المتطرف فيها، ينبئان بمصير مجهول ينتظر التكتل.
لكن أكثر التحديات التي ستواجه من سيخلف ميركل هو العلاقة مع روسيا والولايات المتحدة، ففي الوقت الذي يرى زعماء مثل ماكرون ولاشيت وسالفيني ومارين لوبن بضرورة بناء علاقة جديدة مع موسكو، ترفض دول «الجناح الشرقي» في الاتحاد الأوروبي، خصوصا پولندا ورومانيا ودول بحر البلطيق الثلاث، أي تهاون مع موسكو، وهو ما يؤكد أن الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد ميركل لن يكون كما كان قبلها.
وسيكون على المستشار الجديد كذلك ترتيب العلاقة بين ضفتي الأطلسي، ليس بين برلين وواشنطن فحسب، بل بين بروكسل وواشنطن أيضا.
ذلك أن الرئيس الأميركي جو بايدن وإن أبدى كل استعداد لإزالة ما شاب هذه العلاقة في عهد دونالد ترامب، سيعيد طرح الأسئلة عن التوازن في التبادلات التجارية، وتغذية ميزانية حلف شمال الأطلسي (كرر بايدن موقف ترامب داعيا أوروبا إلى تعزيز الإنفاق العسكري وتحمل المزيد من المسؤولية في الدفاع والأمن)، والدور الروسي المقلق في أوروبا، خصوصا مشروع أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» الذي لاتزال ألمانيا متمسكة به على الرغم من النصائح والتمنيات الأميركية.
وهنا لابد من الإشارة أيضا، إلى أن الصين هي أكبر سوق للصادرات الألمانية من سيارات وسواها، وبالتالي هل تستطيع برلين أن تتخذ من بكين موقفا متشددا يرضي واشنطن؟ وكيف يمكن لألمانيا أن تقود خطة إنهاض أوروبية شاملة من دون الركون إلى الصين صونا للسيادة الأوروبية وبما يحفظ لاقتصاد الاتحاد قوته التنافسية؟
لا جدال أن المشهد السياسي الدولي سيختلف كثيرا مع غياب ميركل، فهي من نوع القيادات التي تترك بصمتها في التاريخ السياسي والإنساني، ويصعب تعويض غيابها خاصة بعد 18 عاما في خدمة بلادها، مع عدم افتعال أي حروب أو المشاركة فيها، وفتح الحدود لاستقبال اللاجئين، وإلغاء التجنيد الإجباري، وإنهاء الاعتماد على الطاقة النووية.
غير أن السؤال الذي يطرح: أي ألمانيا بعد ميركل؟ ومن يملك القامة التي تقدر على مواجهة كل التحديات الآتية من كل حدب وصوب وإبقاء القارة مستقرة وسط الرياح الحارة التي تهب من الجنوب المتوسطي، والأمطار التي تأتي من الغرب الأطلسي، والصقيع الذي يزحف من الشرق السيبيري؟!