بعد الاطلاع عن كثب على فلسفة إدارة النرويج لصندوقها السيادي من خلال ما تم سرده في المقالات السابقة، وانطلاقا من نظرة متخصص في مجال المالية العامة، فإننا نرى أن تحقيق مبادئ الشفافية في المالية العامة وعلى وجه التحديد في الصناديق السيادية للدولة أمر قابل للتطبيق، وذلك متى ما وجدت المبادرة في ظل الإيمان بمبادئ الحوكمة في إدارة هذه الصناديق، ومتى ما كان هناك توافق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في التركيز على وضع مبادئ توجيهية للأخلاقيات في إدارة الصناديق السيادية للدولة، ووضع الآليات والسياسات المناسبة لإدارتها.
فالبنية التشريعية للدولة قائمة على أساسات ودعائم تنطلق منها تلك المبادئ الأخلاقية، فأحكام الدستور نصت على حماية الأموال العامة، وأن الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية، ورفع المستوى المعيشي وتحقيق الرخاء للمواطنين.
كما أكد الدستور أن الثروات الطبيعية ومواردها ملك الدولة، وتقوم الدولة وبتعاون السلطات فيها على حفظها وحسن استغلالها بما يقتضيه اقتصادها الوطني، هذا وتقدم الحكومة إلى مجلس الأمة بيانا عن الحالة المالية للدولة مرة على الأقل في خلال كل دور من أدوار انعقاده العادية، بما يحقق الشفافية في البيانات المالية وأهمية مشاركتها بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ممثلة بمجلس الأمة وهو ممثل الشعب.
ووفقا للبنية التشريعية تلك فلابد أن تأتي التشريعات في سياق أحكام الدستور، وعلى الإدارة المالية العامة للدولة المضي قدما في تحقيق تلك المبادئ من خلال مبادرتها بتبني كل ما يعزز تلك المبادئ في التشريعات المتعلقة بالإدارة المالية للدولة، ومنها ميثاق الممارسات السليمة في مجال شفافية المالية العامة الذي أعده صندوق النقد الدولي، وأفضل الممارسات المعنية في شفافية الموازنة التي أعدتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ومبادئ الاستثمار المسؤول (ESG) الصادرة من الأمم المتحدة في هذا الشأن (UN PRI)، وغيرها من المبادئ والممارسات الجيدة في هذا المجال.
وكما أشرنا سابقا بما أن البرنامج الوطني للاستدامة الاقتصادية والمالية في ظل برنامج عمل الحكومة (2021/2022 ـ 2024/2025)، والذي أعده الفريق التوجيهي المشكل برئاسة وزير المالية والتابع للجنة الشؤون الاقتصادية في مجلس الوزراء، قد تبنى معالجة استدامة المالية العامة وفق برنامج وطني للاستدامة لتعزيز كفاءة الإدارة الحكومية من خلال عدة مبادرات منها حوكمة تنفيذ الإصلاح المالي وتطوير نزاهة وشفافية الإدارة الحكومية.
وعليه فلا مناص من تبني أفضل الممارسات الدولية في مجال شفافية المالية العامة وحوكمة إدارة الصناديق السيادية بما في ذلك تلك التي لدى مؤسسة التأمينات الاجتماعية وفق مبادئ الاستثمار المسؤول، وأن تسعى الإدارة المالية العامة بالتنسيق مع السلطة التشريعية لتحقيق ذلك لتكون في مصاف الدول ذات التصنيف العالي في مؤشرات شفافية الصناديق السيادية.
خاصة وأن وزارة المالية في مجال الشفافية قد أطلقت إستراتيجيتها في بداية العقد الماضي، والتي تدعم المساءلة والشفافية والسعي نحو تحسين وضع الوزارة في مؤشر الشفافية والنزاهة ومدركات الإصلاح، ونشر قيم الشفافية والنزاهة انسجاما مع المعايير العالمية في مجال الشفافية والنزاهة، والتي ترصدها منظمات عالمية.
كما صاغت رؤيتها في هذا الشأن بأن تكون نموذجا للنزاهة والشفافية، وحددت رسالتها بالسعي إلى تعزيز النزاهة لتحقيق النمو المستدام، وتحسين الخدمات العامة من خلال الشفافية في إتاحة المعلومات للمجتمع والجهات الرقابية، وتفعيل المساءلة عن القرارات، ومكافحة الفساد المالي والإداري بأنواعه وصولا لتحقيق الإدارة الرشيدة لموارد الدولة.