الدنيا بها من الصور الكثير الكثير، وبين هذه الصور تجد الحالكة السواد والبيضاء، والناس كذلك، فمنهم من يحمل بين حناياه قلبا أبيض ومنهم العكس، وبين هذه الصور الكثيرة عليك أن تختار بتروٍ وحكمة الصورة التي تلائمك، وحي هلا بالأجواد من الناس، فلا شك أن معرفتهم غنيمة ومكسب وسند وذخر لك عند الحاجة، فلا غنى للناس عن الناس، ومعرفة هذه الفئة الصالحة من الناس يعود عليك بالخير والفائدة فهذه العينة الصالحة من الناس وهم الأجواد إن لم يفعلوا الخير، فلن يأتيك منهم شرا، وهم موجودون حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى الضد من ذلك فمعرفة الأنذال خسارة فادحة وغبن وهضيمة، وسيلوم المرء نفسه لوما شديدا على مصاحبته للنذل، لأنه سرعان ما ينقلب عليك وتصلك الأذية منه، فإياك وهذا الصنف من الناس، الذين لا يثمر فيهم معروفا، وليتك تسلم على ذلك منهم، ولكنهم يجازونك على إحسانك بجحود وربما طالك الأذى منهم، فكان هذا جزاءك على صحبتك لهم، والشواهد على ذلك كثيرة مثل مجير أم عامر الذي قال فيه الشاعر:
ومن يفعل المعروف في غير أهله
يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
وقول الآخر:
جزاني جزاه الله شر جزائه
جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
وبين النذالة واللئامة رابط قوي، فديدنهما أذية الناس، والسعي في الإفساد، على عكس الأجواد الذين لا ترى منهم إلا الخير، والعاقل الرزين الكيس يعرف النذل من الجواد فسيماهم في وجوههم، ومن البلاء حاجة المرء إلى اللئيم، وإذا ارتفع شأن النذل قل على الدنيا السلام، وقد تفنن الشعراء في تعرية أخلاق النذل وكشفه على حقيقته، فهذا البستي يقول:
فنذل الرجال كنذل النبات
فلا للثمار ولا للحطب
وكذلك قارن بين الأجواد والأنذال شاعر نبطي وهو محمد المهادي فقال شعرا سائرا ما زال الناس يرددونه كلما مروا بهذه التجربة المريرة حيث يقول:
الأجواد وإن قاربتهم ما تملهم
والأنذال وإن قاربتهم عفت ما بها
الأجواد إن قالوا حديث وفوا به
والأنذال منطوق الحكايا كذابها
الأجواد مثل العد من ورده ارتوى
والأنذال لا تسقي ولا ينسقى بها
من هنا أقول إن معرفة الأجواد غنيمة ومعرفة الأنذال هضيمة، وقد مررنا بهذه التجارب قبل أن تحنكنا الحياة، وما أجمل القلوب البيضاء التي تنبض بالخير. ونتمنى أن يعجل المولى عز وجل لأصحاب القلوب السوداء جزاءهم في الدنيا والآخرة.
ولابد أن نعرف أن النذالة لا تجتمع والرجولة، فكفانا الله شر الأنذال وعجل بعقوبتهم وأكثر فينا الأجواد، ودمتم سالمين.