تراجعت العملات المشفرة مؤخرا بمعدلات كبيرة، على وقع عدة أسباب على رأسها الحملة الصينية الموجهة ضد تعدين البيتكوين وبقية العملات المشفرة التي تتسم بأنها خارجة على السيطرة والرقابة الحكومية، وهو ما يتعارض مع سمات النظام المالي الصيني الذي يركز على إتاحة كافة المعلومات المالية وتقنين كافة التحويلات وتدفقات النقد.
تأثير حملات الصين الأمنية كان لها انعكاس كبير على أسعار تداولات كافة العملات المشفرة، فقد خسرت بيتكوين نحو 40% من قيمتها السوقية وتزيد هذه النسبة أو تنقص مع باقي العملات المهيمنة على سوق التشفير الذي يعاني الفترة الحالية من ضغوطات مختلفة وصلت إلى حدها الأقصى.
لماذا الصين؟
يتمركز جزء كبير من عمليات ومراكز بيانات البيتكوين في الصين، أسباب تفضيل الصين وتحولها إلى بيئة جاذبة لتعدين العملات المشفرة هو أنها تتسم بتوافر الكهرباء الرخيصة وهي المادة الخام اللازمة للتعدين وكذلك انخفاض أسعار الأجهزة اللازمة للتعدين، وأخيرا سهولة إخفاء الأرباح الناتجة عن التعدين بعيدا عن أعين الحكومة.
لماذا الآن؟
مع تجارب الصين اليوان الرقمي في أبريل والذي أعلن عنه بنك الشعب الصيني، وذلك بالتزامن مع إطلاق الحملة الأمنية ضد تعدين العملات المشفرة، اليوان الرقمي يعطي زخما إضافيا لتقليل عمق الاقتصاد النقدي وتعزيز فرص الاقتصاد الرقمي والإلكتروني في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم.
وحسب بيانات بنك الشعب - المركزي الصيني - الصادرة في السادس عشر من يوليو الجاري، فإن التعاملات التي جرى تنفيذها باستخدام تجارب اليوان الرقمي بلغت 34.5 مليار يوان «حوالي 5.3 مليارات دولار» بنهاية يونيو.
كما أشار البنك أيضا إلى فتح 20.8 مليون شخص عبر الصين محافظ لإيداع العملة الرقمية، مع اجراء أكثر من 70.7 مليون عملية.
الصين ليست وحدها التي تنوي إطلاق العملات الرقمية، فتوجد إعلانات أخرى من مصارف مركزية لكل من الإمارات والسويد وإنجلترا واليابان التي تتراوح إعلاناتها ما بين الإطلاق والتخطيط وقرب الإطلاق الرسمي لعملاتها الرقمية.
المركزي الصيني يرى أن المكاسب من إطلاق اليوان الرقمي تتلامس مع مكاسب مكافحته لمخاطر العملات المشفرة ولا تبعد عنها، هذه الإشارة التقطت من حديث «فاو يي في» نائب محافظ بنك الشعب الصيني الذي يقول: «اليوان الرقمي قد يساعد على الاستقرار المالي من خلال نظام يتسم بالمجهولية التي تحت السيطرة، حيث إن المدفوعات نوعا ما ستكون غير معلومة بدرجة معينة لكن أدوات تحليل البيانات ستساعد المركزي في التقاط أي أنشطة غير مشروعة».
اليوان الرقمي ليس بديلا لليوان النقدي وليس مناظرا للبيتكوين او العملات المشفرة، اليوان الرقمي الرسمي يصدره البنك المركزي الصيني وهو وسيلة دفع مكملة وليست بديلة للعملة النقدية، يتم استخدام نفس تقنية العملات المشفرة في إنتاجه لكنه لا يشبهها.
التلوث يسهم أيضاً
يوجد سبب آخر لحملة الصين ضد العملات المشفرة، وهو التلوث. التلوث ينتج من الاستهلاك الكهربائي للتعدين، هذه الكهرباء تأتي من استهلاك مفرط للفحم في محطات الكهرباء الصينية، الارتفاع المفاجئ في الطلب على الكهرباء نتيجة التعدين عن العملات المشفرة يعني مزيدا من حرق الفحم ومزيدا من التلوث البيئي، وهذا يتضارب مع مستهدفات الصين لخفض انبعاثات الكربون بـ 65% بحلول 2030.
من المثير للاستغراب حين تكتشف بأن الطاقة الكهربائية المستخدمة في اليوم الواحد للتعدين عن العملات المشفرة تكفي احتياجات كهرباء منزل واحد لـ 5 ملايين عام! وكما هو واضح فالصين تتسم برخص أسعار كهرباءها بالمقارنة مع المتوسط العالمي، وفي نفس الوقت فهي تستحوذ على 70% من عمليات التعدين عن العملات المشفرة حول العالم رغم تقارير عن تراجع هذه النسبة مؤخرا، لكن يبقى هناك قلق من جعل الصين بؤرة تلوث كبيرة ومرعبة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها حكومة الصين هذا النهج المتشدد والعنيف تجاه العملات المشفرة في البلاد، حيث ترجع أولى هذه الخطوات إلى عام 2017 حين أغلقت السلطات منصات تبادل العملات المشفرة.
تحذيرات من خارج الصين
ظهرت أيضا الفترة الأخيرة عدد من التحذيرات التي خرجت من بنوك وحكومات وهيئات رسمية تحذر المتداولين والمستثمرين الأفراد والشركات من المغامرة بأموالهم في العملات المشفرة التي تتسم بالتقلبات الحادة والتي من المستحيل إدارة توقعاتها.
منها على سبيل المثال، هيئة السلوك المالي البريطانية، التي حذرت البريطانيين الذين يستثمرون في العملات الرقمية المشفرة مثل بيتكوين، بأن يكونوا على استعداد لخسارة كل أموالهم، كاشفة عن تزايد الاهتمام بهذه الأصول المتقلبة.
وقالت هيئة السلوك المالي (إف سي آيه)، الجهة المخول لها حق تنظيم الخدمات المالية داخل المملكة المتحدة، إن 2.3 مليون بريطاني يحوزون عملات مشفرة مقابل 1.9 مليون العام الماضي.
ويحذر «شيلدون ميلز» المدير التنفيذي لقسم المستهلكين والمنافسة في هيئة السلوك المالي ويقول: «إذا استثمر المستهلكون بهذه الأنواع من المنتجات - يقصد العملات المشفرة - فينبغي أن يكونوا مستعدين لخسارة كل أموالهم».
وفي مايو الماضي، أعلن «ايلون ماسك» تراجع شركة «تسلا» عن قرارها بقبول بيتكوين كوسيلة للدفع، بسب المخاوف البيئية المرتبطة بعملية تعدين العملة الرقمية، والتي تتسبب الحكومات إلى رفع الإنتاج من الكهرباء فتقوم بإنشاء محطات تعتمد على الفحم والوقود مثل الصين أو تقوم بإنشاء سدود لا تراعي البيئة الخلابة والمناطق الساحرة المحيطة بالأنهار مثل آيسلندا، ودفع ذلك الإعلان في ذلك الوقت العملة المشفرة إلى الهبوط لمستوى 43 ألف دولار من 57 ألف دولار في خمسة أيام فقط.
الهجرة من الصين
نتيجة تضييق السلطات الصينية على عمليات التعدين ومراكز البيانات المخصصة لإنتاج البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى، بدأت موجة انتقالات من بكين إلى واشنطن ونيويورك، لكن في الولايات المتحدة لن تكون تكاليف الإنتاج ونموذج العمل مثلما كان في الصين، حيث الكهرباء مرتفعة الثمن وإيجار مخازن مراكز البيانات مرتفع أيضا وليس كل المعدنين قادرين على الهجرة والخروج من الصين بل البعض فقط هو القادر على ذلك.
مستقبل تعدين العملة المشفرة
ورغم صدور تقارير حديثة عن تراجع حصة الصين في سوق تعدين البيتكوين إلى 46% فقط في أبريل مقابل أكثر من 75% في سبتمبر 2019 وفقا لتقرير صادر من مركز «كامبريدج» للتمويل البديل، فإن الحكومة الصينية تبدو متحكمة في زمام الأمور وهي التي تحدد الاتجاه الذي سوف تسير به العملة المشفرة.
لكن لا يبدو أن هذا سوف يستمر مع تواصل الحملات الحكومية على مراكز التعدين وإغلاقها حاليا، خصوصا مع ارتفاع حصة الولايات المتحدة من سوق تعدين البيتكوين إلى 16.8% في أبريل مقارنة مع 4.1% في سبتمبر 2019.
كازاخستان ارتفعت حصتها بشكل لافت لتكون ضمن المعادلة مع حصة نسبتها 8.2%، فيما جاءت روسيا رابعا وايران خامسا، ومع تواصل الحملات الصينية سوف تشهد حصة بكين مزيدا من التراجع، لكن على الأقل تظل هي المؤثر الأكبر حاليا في سوق تعدين العملة الرقمية حتى إشعار آخر.