في عام 2001 انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، ومن وقتها بدأ مسلسل الإغراق الصيني بالبضائع الرخيصة بكميات هائلة إلى كل دول العالم التي تقع تحت مظلة اتفاقية التجارة العالمية، حيث لا جمارك ولا رسوم ولا تعريفات، سماوات مفتوحة وحدود مفتوحة وبحار مفتوحة، سباق مفتوح والبقاء للأقوى والأقدر والأكثر استعدادا، والصين كانت بالفعل مستعدة بل الأكثر استعدادا على الإطلاق، وهنا جذور الأزمة الحالية مع الغرب.
كيف وصلت الصين إلى هذه النقطة؟
الصين لا تعتبر نفسها قادما جديدا إلى نادي القوى الكبرى، بل إنها استعادت ما كان لها في الأصل، أي أن الصين ترى في نفسها دولة كبيرة تستحق مكانة وسط الكبار، وأن ذلك أمر طبيعي، وما هو إلا إعادة لعجلة التاريخ أو الماضي الذي يذكر العالم كيف كانت إمبراطورية كبرى واقتصادا قويا في قرون مضت.
قصة الصعود الصيني المذهلة تبدأ من 1978 حين تولى الزعيم الصيني والقائد الاستثنائي «دينغ شياو بينغ» رئاسة الحزب الشيوعي بعد وفاة المؤسس «ماو تسي تونغ» 1976، حيث أعطى إشارة البدء في برنامج الإصلاحات الاقتصادية التاريخية والهيكلية الذي أطلق العنان للإمكانات الصينية الهائلة وجعلها تتبوأ المكانة الدولية التي هي عليها الآن.
وأثناء انشغال العالم الغربي والقوى الكبرى بتفادي ما يمكن تفاديه من مصائب جائحة كوفيد-19، كانت الصين أقل الخاسرين من الجائحة بمعدلات نمو موجبة، بينما هناك حرائق اقتصادية وركود وقعت في براثنه القوى الغربية الكبرى في أميركا الشمالية أو أوروبا وحتى اليابان.
خلفية الحرب الاقتصادية
بدأت هذه المواجهة رسميا في عهد الرئيس السابق «دونالد ترامب»، وبالتحديد في عام 2018 حين أعلن مجموعة من الرسوم الجمركية التي ستفرض على عدد من السلع الصينية نظرا لاتساع هوة الميزان التجاري الأميركي ـ الصيني والتي ارتفعت من 83 مليار دولار عام 2000 إلى 418 مليار دولار عام 2018 لصالح بكين.
لكن الشرارة الأولى كانت في عهد «أوباما» وبالتحديد عام 2011 حين وقع على قانون يمنع استحواذ «هواوي» الصينية على «ثري ليف» الأميركية، وفى 2013 وقع الرئيس الأميركي مرة ثانية على قرار يقيد حركة الاستثمارات الصينية حين أصدر قانونا لتقييد شراء أي معدات أو منظومات من الصين قبل أن تمر على مراجعة دقيقة وفيدرالية.
بالفعل انخفض العجز بمقدار 75 مليار دولار في 2019 ولكن ليس نتيجة ارتفاع الصادرات الأميركية إلى الصين ولكن بسبب انخفاض الواردات الأميركية من الصين بمقدار يقترب من 90 مليار دولار، واستمر التحسن حتى في عام جائحة كورونا إلى أن وصل العجز في 2020 إلى 310 مليارات دولار بفضل عودة ارتفاع الصادرات الأميركية مقابل استمرار انخفاض الواردات من الصين.
لكن هذا لم يكن كافيا، لأن جوهر الأزمة الأميركية – الصينية أكثر عمقا من فرض رسوم أو جمارك وضرائب إضافية لتقييد وصول المنتجات الصينية رخيصة الثمن إلى الأسواق الأميركية، بل تمتد الأزمة إلى أبعاد أخرى من وجهة نظر الغرب الأميركي – الأوروبي منها: تدخل الصين في سعر صرف اليوان، عدم معاملة الصين للشركات الغربية بمثل ما تعامل به الشركات الصينية في الغرب.
بالإضافة إلى دعم حكومي للصناعة الصينية، التعدي على حقوق الملكية وبراءات الاختراع، وأخيرا الارتفاع الحاد والملحوظ في أنشطة الاندماج والاستحواذ الصينية على الشركات الأوروبية الأميركية في قطاعات حيوية مثل الاتصالات والتكنولوجيا والموانئ والسيارات.
أزمة تخفيض اليوان
وبالعودة إلى أساسيات الاقتصاد الكلي، لو قامت أي دولة بتخفيض عملتها عن عمد، فمثلا سعرت الدولة (أ) العملة المحلية عند 5 وحدات أمام الدولار بدلا من 3 وحدات أمام الدولار، أي أنها خفضت قيمة العملة بمقدار وحدتين، هذا يعني انخفاضا مماثلا في استيراد الدولة (ب) للسلع من الدولة (أ)، لأنني كنت أشتري بدولار واحد 3 وحدات وأصبحت الآن أشتري بنفس الدولار 5 وحدات، إذن أنا كمستهلك في الدولة (ب) سأخطط لشراء كميات أكبر، فترتفع صادرات الدولة (أ)، وهذا ببساطة ما حدث في الصين.
اليوان الصيني قوي للغاية للدرجة التي من المستحيل أن يصدق أحد أن قيمته الحقيقية 7 يوانات مقابل الدولار في نفس الوقت الذي يبلغ فيه سعر صرف اليورو 1.2 دولار رغم أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني أضخم من نظيره الأوروبي بـ 2.2 تريليون دولار، ومع ذلك فارق سعر الصرف بين اليوان واليورو أمام الدولار شاسع للغاية.
السياسة الجديدة مع بايدن
هناك ملامح سياسة جديدة تلوح في الأفق بين أوروبا والولايات المتحدة تحت مظلة الإدارة الديموقراطية لـ «بايدن»، حيث تجسدت هذه الملامح في هدفين، أولهما عودة الود بين بروكسل وواشنطن، هذا الود الذي تلاشي في عهد «ترامب»، وثانيهما هو تركيز الجهود على الصين، وهو ما اتضح في قمة الناتو الأخيرة أثناء جولة «بايدن» الأوروبية والتي شملت بريطانيا وبروكسل وجنيف.
في قمة الناتو ببروكسل التي عقدت يونيو الماضي بحضور «بايدن»، تحدث رئيس الوزراء البريطاني «جونسون» قائلا: «عندما يتعلق الأمر بالصين، لا أعتقد أن أي شخص على الطاولة يرغب في الانزلاق إلى حرب باردة جديدة مع الصين، لكن أعتقد أن الناس ترى التحديات، إنهم يشاهدون الأشياء التي يجب أن نتصدى لها معا».
هذه التصريحات وغيرها الكثير توحي بأن هناك خطة ما لتوحيد جهود الغرب الديموقراطي (شاملا اليابان وكوريا) بوجه الصين وروسيا الآخذتين في التوحد والنمو بوجه الغرب الأوروبي والأميركي، روسيا بقوتها العسكرية الشاملة والصين بقوتها الاقتصادية الصاعدة والصلبة.
ويقول الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «ينس ستولتنبرغ» أثناء القمة: «الصين تقترب منا، نراهم في الفضاء الإلكتروني، نرى الصين في أفريقيا، ولكننا أيضا نرى الصين تستثمر بكثافة في بنيتنا التحتية الحيوية» يقصد الموانئ وشبكات الاتصالات والجيل الخامس، يستكمل «ستولتنبرغ»: «نحتاج للرد معا كحلف».
ورغم أن كثيرين كانوا قد اعتقدوا بأن الرئيس الديموقراطي «جو بايدن» سوف ينقلب على سياسات سلفه «ترامب» والتي كانت معادية للصين، وأنه سوف يهادن بكين ويخفف من حدة الحرب الاقتصادية، إلا أنه على ما يبدو سوف تزداد سخونة الحرب في عهد «بايدن» فهي بعيدة كل البعد عن التهدئة.