لا شك في أن الحديث عن الدين أمر مهم لارتباطه التام بكل شؤون البشر، ولأنه يعتمد اكثر ما يعتمد على أوامر رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو في مفهوم الناس مرتبط بحدود لا تخرج عن أداء الواجبات الدينية المفروضة عليهم، وبخاصة منها ما ورد عن أركان الإسلام الخمسة وهي الصلاة والصيام والزكاة وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.
ولقد لفت نظري وأنا أقرأ في كتاب أستاذي محمود محمد شاكر «أباطيل وأسمار» حديثه عن الدين من حيث تعريفه الواسع له باعتباره شاملا لشؤون الحياة، إذ ينبغي على المرء أن يلحظ دائما التقيد في عبادته وفي سلوكه مع الناس بما يرضي الله عز وجل.
وعبارات الأستاذ التي توقفت عندها، ودفعتني إلى كتابة هذا المقال الذي أرجو أن يكــــون نافعا هي:
وعسير جدا على خلق كثير، أن يدرك اليوم معنى هذا اللفظ «دين» عندنا نحن المسلمين، لأن المسلمين منذ غُلبوا على أمرهم بغلبة هذه الحضارة الأوروبية على الأرض مسلمها وكافرها، تلجلجت ألسنتهم بالفرق والذعر لهول المفاجأة، فصار لسان أحدهم أحيانا كأنه مضغة لحم مطروحة في جَوْبة الحنك، ليس من عملها البيان! فمن يومئذ خفى على الناس معنى «الدين»، إذ لا مبين عن معناه، وذاع في الأرض معنى «الدين»، كما يراه سائر أصحاب «الديانات» سوى الإسلام.
و«الدين» عندنا، اسم جامع لكل تصرف يتصرفه المرء المسلم في حياته، منذ يستيقظ من نومه، الى ان يؤوب الى فراشه وفي كل عمل يعمله، مهما اختلفت هذه الأعمال، من أحقرها وأدناها، إلى أشرفها وأعلاها، كل ذلك دين هو مسؤول عنه يوم القيامة، كما يُسأل عن صلاته، وصيامه، وزكاته، وحجه، وإن كان في بعض ذلك على بعض فضل. فالدين عندنا هو الحياة كلها.
فحق الله على العباد، وحق العباد على العباد، وحق بدن العبد على العبد نفسه، كل ذلك دين هو مسؤول عنه، في الصغير والكبير، وفي أمر الدنيا وأمر الآخرة. وهذا فرق ما بيننا وبين سائر أصحاب الملل في معنى «الدين»، لا مثنوية (أي بلا استثناء».
ومن يقرأ هذا الذي اقتطفته من أحد المقالات التي جمعت في الكتاب المذكور يستدل على ما يلي:
أن لفظ الدين لفظ عام، يشمل سلوك الإنسان، ويدله على السبل الكريمة التي يجب ان يسلكها، والعادات والأخلاق الفاضلة التي عليه ان يتحلى بها.
ومما يؤكد ما ذهب إليه الأستاذ محمود محمد شاكر من وصف لما ينطبق عليه لفظ الدين ما ورد في بعض آيات القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية الشريفة، وهذه نماذج لما جاء في هذين المصدرين الكريمين:
أولا: ما ورد في كتاب الله عز وجل:
- ما ورد في سورة آل عمران ضمن الآيات رقم 16، 17، 18، 19، وفيها بيان عن صفات المؤمنين بدين الإسلام، وتأكيد على انه الدين الحق الذي لا يختلف عليه إلا أولئك الذين يجحدون البينات التي جاء بها، وتقول بداية الآيات عن المؤمنين: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17)، تلي ذلك الآية رقم 18 وفيها: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ومن أعظم شهادة من الله عز وجل.
أما الآية رقم (19) فهي حاسمة في أن الدين هو دين الإسلام لا غير، وأنه من غير المقبول أن يتبع أحد غيره، وكل أولئك الذين اختلفوا عنه إنما كان اختلافهم من بعد ما جاءتهم البينات الواضحة: (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19)).
- وما ورد في سورة المائدة، الآية رقم (3) وهي قوله تعالي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، ومن المعروف أن هذه الآية الكريمة كانت آخر ما نزل من آيات القرآن الكريم، وفيها بلاغ للناس بأن الله عز وجل قد أكمل للمسلمين في كتابه العزيز كل ما يتضمنه الدين من أمور لابد لكل مسلم أن يحيط بها، ويعمل على القيام بها، استجابة منه لأمر الله سبحانه، وفيها - أيضا - إبلاغ آخر بأن هذا الدين هو الإسلام الذي ارتضاه لنا ربنا وهدانا إليه.
ثانيا: ما ورد من ذلك في الحديث الشريف:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الدين يُسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» رواه البخاري.
يشير هذا الحديث الشريف الى اليسر الذي يوصف به ديننا الحنيف، فالله سبحانه وتعالى قد يسر للمسلمين سلوك سبل دينهم، ولم يشدد عليهم، فمن الأولى بهم ألا يشددوا على أنفسهم لأن الدين فيه من اليسر ما يعين الجميع على اتباع فروضه، ومثَّل الرسول في باقي الحديث لمن يشذ عن اتباع التيسير، فطلب من أصحابه الذين استمعوا إليه ما معناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم، وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة فلا تسأموا، فتبلغون مقصودكم، كما ان المسافر الحاذق يسير في بعض الأوقات ثم يستريح هو ودابته في غيرها، فيصل الى مقصوده بغير تعب.
(الغدوة: سير أول النهار، الروحة: سير آخر النهار، والدُّلجة: سير آخر الليل).
- عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم» رواه مسلم.
ومما يتضح في سياق هذا الحديث أن النصيحة المقصودة هنا هي ما يمثله الإخلاص، ووضع كامل الطاقة في طاعة الله عز وجل، والعناية بكتابه الكريم، وما فيه من تشريع وهداية، ثم الإخلاص للرسول صلى الله عليه وسلم، واتباع سنته، والوفاء لأئمة المسلمين وعامتهم.
كل هذه الأمور يدعو إليها الدين الحنيف الذي تدين به أمة الإسلام.
ومما يزيدنا معرفة بتلك الصفات أن نرى كتب الفقه الإسلامي، وهي تشتمل على كل ما يتعلق بشؤون الحياة إضافة الى ما تحتويه من بيانات عن العبادات، فالدين سلوك يُسأل الإنسان عنه أمام ربه، وهذا السلوك مطلوب من المرء أن يتصف به من الناحية التعبدية، والأخلاقية، ومن ناحية حسن التعامل مع الناس، وعدم إيذاء أحد منهم، إضافة الى التمسك بالأخلاق السامية كالصدق والوفاء بالعهد، والبعد عن سوء الظن بالناس، وكثير مثل هذا.
وتشتمل الكتب التي جمعت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت أفعاله، ونقلها عنه أصحابه ذلك النقل الأمين الذي يتعذر مثله في أمة من الأمم، على كل ما يجب على المسلم حتى يكون كامل الإسلام متمسكا بدينه، بعيدا عن التقصير في اتباعه.
وإذا نظرنا على سبيل المثال الى كتاب «اللؤلؤ والمرجان فيما رواه الشيخان» وهو كتاب جمعه الأستاذ المرحوم محمد فؤاد عبدالباقي، مما ورد متفقا عليه في صحيحي البخاري ومسلم فإننا نرى مدى انطباق ما ورد فيه على التعريف الذي نقلته عن أستاذنا من حيث شمول الدين لكافة شؤون الحياة وفي نظرة سريعة الى فهرس هذا الكتاب فإننا نجد ما نريد التأكيد عليه من واقع موضوعات الأحاديث الشريفة، فإن موضوعاته ذات دلالة على كل ما أشرنا إليه.
يبدأ الكتاب بمقدمة فيها أحاديث تحذر من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعاء أحاديث عنه لم يقلها، وإيراد هذه الأحاديث دليل على التزام الإمامين البخاري ومسلم بالصدق في نقل الأحاديث، وبالخشية من إلحاق ما لم يقله أو يفعله الرسول الكريم إليه، وبالتالي، فإننا ينبغي ان نطمئن الى ما ورد في هذين الصحيحين، كما نطمئن على الكتاب الذي جمع ما اتفقا عليه، وهو الكتاب الذي ذكرناه آنفا. وسوف نجد فيه ما يلي:
مباحث الإيمان ومنها:
أ - ما هو الإيمان؟ وما صفاته؟
ب - بني الإسلام على خمس.
ج - من خصال الإيمان أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
د - الحث على إكرام الجار، والصمت إلا في الخير.
هـ - من حمل السلاح على المسلمين فليس منهم.
ثم تأتي الأحاديث الخاصة بالطهارة والصلاة وما يتعلق بها، والزكاة، والصيام، والحج، وما يتعلق بالمجتمع من شؤون الزواج ما يتعلق به، ثم البيوع والمواريث والهبات، والوصايا، وما يتعلق بالزروع، والعقوبات والجهاد، وشؤون الإمارة، ثم ما يتعلق بالصيد والذبائح، والأضاحي والأشربة، واللباس والزينة، والآداب المطلوبة بين المسلمين، ثم يأتي فصل كبير بعنوان: كتاب السلام، وفيه كثير من الأمور التي ينبغي ان يتحلى بها المسلم، أو الأمور الأخرى التي ينبغي له أن يبتعد عنها، ومنها:
أ - من حق المسلم على المسلم رد السلام.
ب - استحباب السلام على الصبيان تعويدا لهم.
ج - تحريم إقامة الإنسان من مقعده في المجلس إذا سبق إليه، لكي يجلس فيه غيره.
د - لا تجوز مناجاة اثنين دون الثالث إلا برضاه.
هـ - لكل داء دواء، واستحباب التداوي.
و - فضل ساقي البهائم ومطعمها.
وهنا فصول كثيرة في هذا الكتاب يصعب الإلمام بها في مجالنا هذا، ولكنها كلها تؤكد ما أوردنا فيما يتعلق بالتعريف العام بالدين، وقد رأينا كيف ان الأحاديث النبوية الشريفة قد أحاطت بكل شؤون الحياة، معتبرة كل ذلك من الأمور التي يجب ان يهتم بها المسلم لأنها تمثل صفات الدين الحق، وهو الإسلام.
***
لا أزال مستمرا في حديثي عن تعريف أستاذي للفظ الدين ولهذا فإنني أجد قبل الانتقال عنه أن من المهم أن أذكر عن هذا الأستاذ الفاضل شيئا قد تهم القارئ معرفته.
الأستاذ محمود محمد شاكر عالم من علماء هذه الأمة المحدثين الذين تساوى علمهم واجتهادهم مع كبار العلماء المسلمين الأوائل، وقد صارت له مكانة بين الناس حتى عُرف في كافة بلاد العرب والمسلمين، وقد كان من حسن ظني أن شهدت مجالسه ولاحظت الأعداد الكبيرة التي تغشاها من مختلف البلدان.
وعندما كتب الله لي أن أحظى بالجلوس إليه والاغتراف من علمه أنا وثلاثة آخرون من أصدقائي، فقد كان ذلك فضلا من الله سبحانه وتعالى، ثم من شيخي الأستاذ السيد أحمد صقر الذي أخذ بأيدينا - نحن الأربعة - الى ذلك المجلس الرائع الذي ارتبطنا به واستفدنا فيه بما كان يقدمه أستاذنا من دروس، ثم نستمع الى مناقشات كان بطلها الأستاذ، رحمه الله، ولسوف يبقى كل ذلك ماثلا في أذهاننا، كما اننا سوف لا نتوقف عن التعبير له عن امتنانا، أو دعواتنا له بالمغفرة والرحمة من رب العالمين، وذلك بقدر ما نفعنا به من علمه الوافر وأفادنا باتباعنا لمسلكه القويم، ومنهجه في تلقي العلم وتعليمه.
أما كتاب «أباطيل وأسمار» الذي ورد فيه نص ما كتبه الأستاذ عن الدين، وتقدم ذكره هنا، فهو كتاب كبير الحجم، كان - في الأصل - مجموعة من المقالات التي كتبها لكي يدافع بها عن دينه وعن لغته فأجاد وأبدع كما هي العادة.
وكان قد بدأ في نشرها منذ سنة 1964م، ثم طبعها معا في كتاب.
وقد قال في مقدمة كتابه هذا:
«ولهذه الفصول غرض واحد، وإن تشعبت إليه الطرق، وهذا الغرض، هو الدفاع عن أمة برمتها هي أمتي العربية الإسلامية».
وقد أدى الأمانة التي حملها على عاتقه، وأكمل كتابة الفصول التي أشار إليها، ثم نشرها كما ذكرنا، وعلى الرغم مما جوبه من ردود مؤذية جراء ما كتب، فإنها قد آتت آخر الأمر ثمارها، ونبهت الى ما كان يهدف إليه، ويأمل في تنبيه الأمة الى ما يكتمه أعداؤها، وقد انتشر هذا الكتاب انتشارا واسعا، بفضل الموضوع المطروق فيه، وبفضل السمعة التي يتميز بها مؤلفه، وقبل كل شيء بسبب الغرض النبيل الذي دفعه الى كتابته.
***
آخر الأمر، فإننا نرى ان الإسلام قد وضع تحديدا واضحا للدين عندما نزل قول الله سبحانه وتعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)، وبيّن في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما على المسلم من واجبات، وما ينبغي عليه ان ينتهي عنه من نواه.
وعلى العكس من ذلك فإن الأمم الأخرى لا تتفق على مفهوم واحد محدد للدين، ولذلك فقد وجدنا ما يلفت النظر في كتاب: «الموسوعة العربية الميسرة» الطبعة الثانية سنة 2001م، المجلد الثاني ص 1149، وهو قول هذه الموسوعة:
«الدين، اصطلاح من العسير تحديده تحديدا دقيقا، وذلك لتباين تأويله لدى كل من البدائيين وأصحاب الديانات السماوية، ولاختلاف طباع الأشخاص، ولاتصاله بأعمق العواطف والمعتقدات التي تدفع بالإنسان نحو الكمال كما يشتمل الدين على الدوافع التي تحكم سلوك الإنسان».
ويكفينا هذا النص الذي نقلناه عن الموسوعة المشار إليها، علما ان ما ورد فيها عندما يقارن بما ذكرناه عن صفات الدين عند المسلمين، وكما وجدنا أستاذنا محمود محمد شاكر يذكره في كتابه: «أباطيل وأسمار»، فإن ذلك يدلنا على عكس ما جاء في الموسوعة، فالدين الإسلامي محدد واضح المعالم، بين السمات، تدل عليه الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة التي استشهدنا ببعضها.
ولعل في كل ما تقدم الكفاية.