دائما ما يسأل المرء منا عما يتذكره مما درس فتجد الإجابة تختلف من شخص لآخر، فعلى الرغم من كم الآيات القرآنية والأحاديث والمعلومات إلا أن لكل مرء منا شيئا ما يتذكره وبالنسبة لي لا أتذكر من كل ما درست سوى ولله الحمد المعوذات وحديث واحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقصيدة «أبوفراس الحمداني» أراك عصي الدمع.
في الحقيقة، القصيدة تعود إلى زمن الدولة العباسية، ذلك العصر الذهبي الذي كان يقدر الكتاب والشعراء والعلماء، فالقصيدة معقده وألفظها العربية من الصعب جدا فهمها، إلا أن البيت الأول من القصيدة يحكى ويؤول بالكثير من العبارات.
فحينما كنت صغيرة كنت أحب البيت لأجل نغمته وقافيته الموجودة فيه دون أن أدرك المعاني الكثيرة والقيم التي يحملها ذلك البيت، والسؤال الذي كان يتردد إلى ذاكرتي حتى اليوم هو متى تتحجر الدموع في عين المرء منا؟ أيعقل أن يبكي القلب دون أن تذرف العيون دموعا.
وفي الحقيقة في السابق ما كنت أتخيل أن ذلك الأمر ممكن إلا أنني اليوم بتّ أصدق، وقد تكون الأسباب متعددة فطول الصبر وقسوة الحياة والغربة وفراق الأحبة هي التي تسبب عصيان الدموع فيبكي القلب ألما دون ان تستريح العين بدموعها.
فمن فقد عزيزا في صغره كأحد والديه، إخوته، أقاربه، وطنه وعرف الغربة في صغره ثم توالت عليه الأحزان والنوائب، هذا بالتأكيد سيصل إلى عمر معين تتحجر الدموع في عينيه.
فكثيرا ما يعتقد البعض أن فراق الوطن والأهل والأقارب يكون بقرار، ولكنه في الغالب قضاء وقدر، فالله هو الذي يقدر ويسبب الأسباب ولا يدري المرء منا في أي ارض سيبيت ولا في أي ارض سيموت فكلها أقدار وقد ذكرها الله صراحه في كتابه الكريم.
فقد تكون في مكان وتعيش به مطمئنا مرتاح البال ثم يقدر الله أمرا عليك بعكس ما تشتهيه الأنفس وكلها من باب الامتحانات للعبد المؤمن لعل الله يحدث بعد غربته وفراقه لأحبته أمرا يرضيه، أو لعل الله سيجمعه بأناس أخير وأفضل ممن فارقهم.
إلا أن الإنسان بكل ما يمر به من مراحل عمره مع صبره على البلاء ومشقة الحياة تجده يصل في مرحلة من النضج لعلها تسبق أقرانه، فمن يكون متماسكا لدى البلاء واقفا بصمود أمام كل ما يعتريه في هذه الحياة، فهذه من الحكمة التي يتمتع بها المرء، فلا يكون جزوعا وهلوعا كبقية من هم في عمره.
لذلك فأبوفراس الحمداني حين كنا صغارا كنا نفهم أن قصده من هذا البيت بأنه يذمّ من هم في مثل هذه الصفة من القوة والصلابة، ولكنه على خلاف من ذلك، فهذا مدح لأن الإنسان الحكيم هذه هي صفته، وهذه هي شيمه، وهذه هي أخلاقه.
فالصبر وضبط القلب وهوى النفس هذه لا يقدر عليها أي كان سوى من يتمتع بحكمه وقوة في الشخصية ورضا وإيمان بقضاء الله وقدره، فالإيمان بأن القدر يسير لنا أمورنا وشؤوننا هذه من أسمى أنواع الإيمان الذي يتحلى به العبد المؤمن.
فقد يبكي احدهـــم على عزيز فارقه أم أو أب أو أخ أو أخت أو أقارب أو حتى وطن يجـــزع لما أصابه ثم يحـــمد الله على مـــا أحدثه الــله من فقد لأنه وجد خيرا لم يكن ليصيبه لولا ما احزنه بالأمس.
لذلك من شعرائنا وأدبائنا ومعلمينا ورجال ديننا نتعلم الحكمة وحسن التعامل مع الظروف أي نعم أن الفقد صعب والفراق مر، ولكن الله دائما يحدث بعد ذلك أمرا سيرضي به العبد المؤمن ويواسي جراحه.
ونحن بالتأكيد نتحدث عن حال العبد المؤمن الطائع المبتعد عما حرمه الرب ونهى عنه على خلاف العصاة الذين لا يعرفون من الإسلام سوى الشهادتين فهؤلاء أعانهم الله على ما ابتلاهم به وعفانا الله مما ابتلاهم.
لـــذا مـــن فقهائنا نتعلم الحكمة بأن الإنسان بطبعه هلوع جزوع كما وصفه الله في كتابه الكريم إلا المصلين والطائعين والمؤمنين فهؤلاء سيصلون للوصف الذي ابتدأ به أبوفراس الحمداني قصيدته.