لا أكرر نفسي عندما أعود إلى الحديث عن الإيجابية، وأثرها في حياة الناس، بعد المقال الذي نشرته بهذا الشأن، ذلك لأن الشعوب التي لا يتميز أفرادها بالإيجابية شعوب مآلها إلى التخلف، واللبث وراء صفوف الأمم.
ينطبق على ما تقوم به في حياتها ما جاء في بيت أبي العلاء المعري الذي شاهد قوما يقولون ولا يفعلون فأعلن قوله عنهم:
عمـلٌ بلا عمل ووقــت ضائــعٌ
ويدٌ إذا ملكتْ رمتْ ما تملكُ
وحتى نبتعد عن صورة التكرار فإننا نورد حديثا مقاربا لما كنا نذكره في مقالنا الماضي. وهذه المقاربة لاشك فيها فنحن ـ بصورة ما ـ نستطيع أن نقول إن الإيجابية ذات صورة أخرى مهمة هي: المبادرة، والمبادر من الناس إلى الأعمال المهمة النافعة هو إيجابي بطبعه.
وعرفت المبادرة في اللغة العربية بأنها المسارعة، فقال ابن منظور في كتابه «لسان العرب»: بدرت إلى الشيء: أسرعت، وذلك: بادرت إليه، وتبادر القوم أسرعوا، والبدار: العجلة إلى الشيء، وتبادر القوم الشيء: أي سبق بعضهم بعضا إليه.
ويحق لنا بعد هذا الإيضاح أن نتساءل:
ـ هل نحن قوم مبادرون؟ أصحاب مبادرات تحسب لنا، ويسجلها تاريخ بلادنا؟
هذا هو ما نجده فيما يلي:
في تتبع تاريخ الكويت يتضح لنا أن الكويتيين كانوا أهل مبادرات منذ بداية نشأة نظام الحكم في بلادهم، وكانوا يريدون أن يحيوا في مكانهم هذا حياة طيبة مطمئنة لا تنغصها منغصات، ولم تكن الأمور ميسرة منذ البداية، ولكن الآمال الكبار التي كانت تدفع بهؤلاء الناس إلى طلب الاستقرار، وإلى العيش في أمان وحرية، لا تُكدرهم حوادث، ولا تنقصهم وسائل العيش هي التي دفعت بهم إلى مبادرات مهمة قاموا بها، فعادت نتائجها عليهم بما شهده تاريخهم من نشاط في مختلف المجالات، وهي التي صاغت هذا الوطن منذ البداية صياغة فريدة جعلته مثالا يحتذى في المنطقة كلها، ولعل من أهم ما يؤكد ذلك ما كتبه الأميركي:
أ. لوشر الذي زار الكويت في سنة 1868م، وقد نشر جزء من كتابه في الكويت سنة 1959م بهمة المرحوم الأستاذ عبدالرحمن الخرجي، صاحب مكتبة ومطبعة الطلبة.
يقول لوشر:
«وقد وجدنا المدينة تشبه إلى حد كبير (مسقط) ولكن الفرق يظهر كثيرا من ناحية النظافة الملحوظة في هذه المدينة، تظهر الكويت بصفتها مدينة عربية فائقة النظافة مع أنها إلى حين ذلك الوقت الذي زرناها فيه كان من النادر أن يكون قد زارها فيه أحد من الغربيين، وكان يُنظر إليها كأنها خارج موقع المرور حتى من العرب أنفسهم».
وهذه شهادة تثبت اهتمام الكويتيين بوطنهم وحرصهم على جعله وطنا نظيفا لائقا بهم وبطموحاتهم، وقد أشار الرحالة الذي كتب ما اقتطفناه من كتابه الى أن هذه النظافة التي رآها في بلادنا إنما هي نابعة من طبيعة أهلنا، وليست مكتسبة من أناس آخرين، وقد استدل على ذلك حين ذكر ان الكويت عند وصوله اليها كانت تعتبر بعيدة عن خطط المرور الأجنبية مما يدل على أنه الزائر الوحيد منهم، وإن ما رآه في الكويت إنما هو من صنع أبناء البلاد أنفسهم.
الكويتيون أهل مبادرات
إذن فإننا نستطيع أن نقول إن الكويتيين كانوا أهل مبادرات، ونكرر هذا القول مقدمين الدلائل عليه في سرد نذكر فيه نماذج مما بادروا إليه من أعمال:
1 ـ استقر أبناء الكويت في بلادهم هذه منذ عدة قرون، وكانت بادرة قامت بها المجموعة الأولى التي لحقت بمن كان يعيش في هذا الموقع قبل وصولها إليه، وقد بدا انها كانت مجموعة متقاربة ومتجانسة، ولذا فإنها ما إن بدأت في الاستقرار والتعايش مع السابقين في السكنى، حتى سعت إلى تتويج بادرة التجمع ببادرة أخرى هي: إنشاء نظام الحكم الذي سارت عليه البلاد فيما بعد.
2 ـ كان الموقع مغريا، وداعيا إلى الالتقاء فيه، وكان البحر حوله قد شكل ميناء طبيعيا يحف بالمنطقة التي سكنت، وقد وصف هذا الوضع البحري بإعجاب من قبل الزوار الأجانب الذين أتوا إلى هذه البلاد فيها بعد.
هذا وقد كانت سبل العيش عن طريق استغلال هذا المجال الطبيعي مفتوحة، لا تحتاج إلا الى أن يبادر هؤلاء السكان الى العمل الجدي، حتى تمكنهم الاستفادة من كل ما يقومون به من خلال هذا البحر.
3 ـ وكانت الصحراء مجالا آخر لكسب العيش بكل ما يمكن الحصول عليه من خلال ما تنتجه، أو من خلال وسائل الرحلة والانتقال، مما سنقوم بوصفه فيما بعد.
4 ـ في البحر مجالات كثيرة لكسب الرزق الحلال، وبه تتم الاستعانة على الاستقرار في هذا الموضع المختار، وقد بدأ الأهالي باستغلاله في صيد السمك أولا، ثم بدأت عن طريقه رحلاتهم إلى الأماكن القريبة، التي كانت الرحلات إليها من اسباب نمو التجارة التي صار لها دور كبير في حياة البلاد من حيث تحويلها إلى سوق للمنطقة يزوِّد المجاورين بحاجاتهم.
ولقد دعاهم نجاحهم الذي نالوه في تلك البدايات الى عمل المزيد، فبادروا الى القيام بنشاط أوسع، وقد كان ذلك متمثلا في أمرين اتجهوا إليهما:
أ - صيد اللؤلؤ.
ب - السفر إلى الأماكن البعيدة.
5 - ولقد كان صيد اللؤلؤ من الأعمال الكويتية المهمة التي أفادت الناس، وعادت على البلاد بخيرات كثيرة واستمر استغلالها إلى وقت يقرب من منتصف القرن الماضي، حيث توقفت تدريجيا بسبب منافسة اللؤلؤ الزراعي للؤلؤ الصناعي الذي كان الكويتيون يحصلون عليه في رحلات الغوص.
ولكن هذا التوقف لم يتم إلا بعد أن بلغت رحلات صيد اللؤلؤ الأوج، وصارت الكويت تقذف بأبنائها - في كل موسم - إلى البحر الممتد أمامها، وقد أعدت لذلك سفنا كثيرة حتى لقد وصل عددها في سنة 1919 الى 1200 سفينة.
ووصل الغواصون الى بلاد سيلان (سيرلانكا)، حيث غاصوا في بحرها بعيدا عن موقع بلادهم، وعن المواقع الأخرى التي اعتادوا الغوص فيها باستمرار.
ولقد اشتهرت في الكويت سنة الطفحة وهي سنة ازداد فيها عدد السفن المشاركة في الغوص، كما ازداد إنتاج ما تحصّل عليه من اللؤلؤ، وانتفع السكان بذلك المورد المهم، وكانت الطفحة في سنة 1912.
6 - أما في مجال السفر، فقد خرجت السفن الكويتية الى مدى بعيد بمبادرة من نواخذة السفن الكويتية الذين لم يتوقفوا عند رحلات من سبقهم من أبناء وطنهم، وقد بدأت المجازفة الأولى، فلحقتها مجازفات أخرى، ونتيجة لنجاح أولئك الرجال في إحراز الهدف المنشود، فقد صارت الرحلات الموسمية الى الهند وشرقي أفريقيا مما اعتاد عليه الكويتيون، وعن طريقه عظمت التجارة، واشتهرت البلاد بكونها مركزا تجاريا يفد إليه تجار المناطق المجاورة من أجل شراء ما يحتاجون إليه.
ونشير هنا الى مبادرة قام بها نوخذة كويتي عريق هو المرحوم محمد بن عيسى العصفور المولود في الكويت سنة 1908، وكان من رجال البحر المعدودين، وهو أحد الذين نالوا شهادة قبطان سفينة الأسطول البريطاني «شورهام»، بعد امتحان مع زملائه، للتأكد من تمكنهم من قيادة السفن.
وكانت رحلته الأكثر أهمية هي التي قام بها الى ميناء كولومبو في سيريلانكا سنة 1937 عندما طلب منه أحد التجار وهو على ساحل الهند الغربي نقل كمية من الأسماك المجففة الى هناك، وقد قبل المجازفة، وأخذ طريقة الى تلك البلاد، معتمدا على درايته البحرية وما معه من معدات وخرائط.
ولقد كانت رحلة شاقة ولكنه اجتازها بنجاح، وسُجل له انه أول نوخذة كويتي يصل الى هناك، ويشاهد مدينة كولومبو.
وكان لنجاح أبناء الكويت في مبادراتهم تلك أسباب متعددة منها:
أ - اكتساب الخبرات البحرية من آبائهم ومن زملائهم مما أدى الى وجود عدد كبير من قادة السفن الشراعية الكويتيين (النواخذة)، فسهل بذلك تشغيل أسطول من السفن الكويتية العابرة لبحر العرب وما بعده الى حدود تنزانيا الأفريقية.
ب - بروز صناعة بناء السفن، وكانت مراكز صنعها تمتد على ساحل جون الكويت بصورة تلفت الأنظار، وكان من جهود هؤلاء العاملين اختراع وإنشاء السفينة الكويتية المعروفة (البوم السفار)، وهو إيداع كويتي محض، وقد صار علامة على الكويت في كثير من الموانئ التي ترفأ إليها سفن بلادنا، فتعرف بسببه، وبسبب راية الكويت التي تخفق على ساريته.
ج - زاد اهتمام الكويتيين بالبحارة، ولذا فقد أنشأ بعضهم مكاتب لهذا الغرض في بومباي وكراتشي وعدن، وصارت هذه المكاتب صلة وصل بين أسواق هذه البلدان وتجار الكويت، فسهلت كثيرا من الأعمال التي كانت السفن تقوم بها.
ولقد كانت المبادرة إلى إنشاء هذه المكاتب من المبادرات المهمة التي دفعت بتجارة الكويت الى مزيد من النجاح والازدهار، واكتسبت الكويت - بسبب ذلك - سمعة عالية في البلدان التي افتتحت فيها، لما يتميز به أصحابها من حرص على حسن التعامل مع سكان تلك المناطق إضافة الى تعاملهم مع الجميع بالصدق والأمانة، وتمثيل وطنهم أفضل تمثيل.
ولقد كانت هذه المكاتب من العناصر المهمة التي تكفل الأمان والاطمئنان للنواخذة وللتجار الكويتيين عندما يكونون بعيدين عن وطنهم خلال تلك الأسفار، فيجدون في تلك المكاتب عونا على كثير من الأمور، ورمزا يذكرهم بوطنهم، ولذا فقد ظل ذكر هذه المكاتب في الأذهان أمدا طويلا، كما انه قد استمر بعضها في العمل إلى وقت قريب على الرغم من توقُّف الرحلات الكثيرة التي تتجه الى مراكز عمل هذه المكاتب.
ومما يجدر بنا ذكره قبل الانتقال الى فقرة أخرى من هذا المقال انه مما يدل على تبكير ابناء الكويت في القيام بالرحلات البعيدة المدى، ان تجارة الكويت قد امتدت الى الهند وما حولها منذ عهد الشيخ عبدالله بن صباح بن جابر 1776-1814م وهذا وقت يدلنا على طموح الكويتيين الذي كان يميزهم منذ امد بعيد.
تحلية مياه البحر
واستمرت المبادرات الكويتية التي شهدها تاريخ بلادنا حتى لقد وجدنا منها ما يلي:
أ - مع تكاثر عدد السكان، وعدم وجود مصادر مياه كافية في البلاد، فقد كان الخوف شديدا من تفاقم النقص في هذه المادة الحيوية التي لا غنى عنها لإنسان، وهي التي يقابلها في الكويت اضطراد النمو في اعداد السكان، ومن هنا جاءت المبادرة، وكانت في البداية على هيئة فكرة طرأت على ذهن واحد من ابناء الكويت، فنفذها، ثم سارع غيره الى تنفيذ ما يماثلها وكان ابتداء ذلك في عهد الشيخ مبارك الصباح.
كانت الفكرة سهلة التنفيذ لأنها تعتمد على استعمال السفينة الشراعية في استحضار المياه الى البلاد بعد ملئها بخزانات المياه الخشبية التي كانت سائدة فيما مضى، ثم الذهاب بهذه السفينة (التي اطلق عليها فيما بعد اسم: بوم الماء) إلى الشمال لجلب المياه من شط العرب عندما كانت مياهه صالحة للشرب، وقد تطورت هذه الفكرة، واتسع نطاق تنفيذها، حتى لقد انشأت حكومة الكويت شركة اطلق عليها اسم: شركة ماء الكويت المحدودة وذلك في سنة 1939م، ثم تضاعف اهتمام الحكومة فاشترت في سنة 1949 سفينة بخارية كبيرة هي عبارة عن خزان يتم ملؤه بالمياه، ثم يأتي الى الكويت لكي يسد حاجتها، وقد اضيفت الى هذه السفينة سفينة اخرى فيما بعد.
ولعل اهم مبادرة قامت بها الكويت هي التي نجمت عن اهتمام الشيخ مبارك الصباح (توفي سنة 1915م) بإحضار آلة لتحلية مياه البحر، وعلى الرغم من ان هذه الآلة لم تنجح في اداء مهمتها الا انها فتحت الاذهان في سنة 1955 الى امكان استغلال مياه البحر للشرب بعد تحليتها اعتمادا على ان تصنيع مثل هذه الآلات قد تطور منذ سنة 1914 حين جلب الشيخ مبارك الصباح الآلة الأولى التي لم تنجح آنذاك.
أول مدرسة نظامية
ب - ومن المبادرات الكويتية التي يذكر الذين قاموا بها بالخير دائما: هي المبادرة الى افتتاح اول مدرسة نظامية في الكويت، وهي مدرسة المباركية، وقد صدرت عن نشأتها كتابات كثيرة منذ بدأت فكرة الى ان استقبلت طلابها، كما جرى وصف العمل في هذه المدرسة لسنواتها الأولى، ومما ورد في هذا الشأن ما اثبتته موسوعة تاريخ التعليم في دولة الكويت التي صدرت في سنة 2002م، وفيها تفصيل واسع يتناول الحركة التعليمية في البلاد منذ بدايتها، وبخاصة ما يتعلق بنشأة التعليم النظامي الذي بدأته المدرسة المباركية في السنة الدراسية 1911-1912م.
وفي سنة 1921 نشأت المدرسة النظامية الثانية عندنا، وهي المدرسة الاحمدية، وكانت نشأتها بمبادرة من عدد آخر من ابناء الكويت، وكان السبب الذي دفعهم الى مبادرتهم هذه هو عدم كفاية مقاعد المدرسة المباركية لاستيعاب المتقدمين اليها طلبا للدراسة، اضافة الى رغبة هؤلاء المبادرين في اضافة بعض المواد الدراسية التي وجدها مؤسسو المدرسة الاحمدية - آنذاك - ضرورية، لأنهم اطلعوا على حركة التعليم في خارج الكويت فوجدوا أن الأمر هنا يقتضي اضافة هذه المواد ضمن مشروعهم المقترح.
وفي سنة 1936م جاءت المبادرة الأهم في نطاق التربية والتعليم، فنشأ مجلس المعارف الذي تولى متابعة المدارس التي نشأت حتى وقت قيامه، وأنشأ لذلك ميزانيته المالية الكافية.
وبدأ العمل للمستقبل، فجرى على يده عمل تربوي جليل هذه هي بعض ملامحه:
- استكمال السلم التعليمي.
- التخطيط لإنشاء المدارس في كل مكان في البلاد وتنفيذ ذلك.
- الاهتمام بالتعليم الصناعي، وبتخريج المعلمين الكويتيين من اجل سد الحاجة المتزايدة اليهم.
- فتح مجال البعثات امام ابناء الكويت.
وقد كانت هذه طفرة كبيرة، ومبادرة مهمة جدا في تاريخ الكويت، وقد ظهرت نتائجها فيما بعد؛ حينما بدأت اعداد الخريجين من ابناء الوطن في التوافد الى وطنهم وهم يحملون شهاداتهم العلمية في تخصصات مختلفة، فانتشر هؤلاء الخريجون في كل مصالح الدولة يعملون بموجب ما تعلموه ويخدمون وطنهم الذين درسوا من اجله.
وبالنسبة لتلقي التعليم في الخارج فإنه لم يكن غريبا على ابناء الكويت، اذ كان عدد منهم - وبخاصة طلاب العلم الديني - يذهبون الى بعض البلدان المجاورة لتلقي العلم بها والعودة لخدمة ابناء وطنهم في هذه الناحية المهمة.
ومن أشهر من سلك هذا السبيل: الشيخ عبدالله الخلف الدحيان، والشيخ احمد خميس الخلف، والشاعر صقر الشبيب وغيرهم.
ولكننا لابد ان نشير الى عدد آخر من الكويتيين الذين بادروا قبل غيرهم الى الدراسة في الخارج حتى وصل بهم المطاف الى القاهرة فدرسوا في الازهر الشريف هناك وذلك في اهتمام شخصي منهم بطلب العلم.
وقد وردت أسماء لبعض أولئك المبادرين وكان منهم:
- الشيخ عيسى بن علوي سنة 1864م.
- الشيخ مساعد العازمي في سنة 1882م.
وذُكر عدد آخر - غيرهما - يضيق عنه المجال وورد بيان لما جرى لهؤلاء الأوائل خلال دراستهم وبعدها.
الكويت
وهنا ننتقل نقلة واسعة لكي نقدم أنواعا أخرى من المبادرات التي شهدتها الكويت في تاريخها، ونبدأ بما يلي:
- حرص الكويتيون بعد تنامي عددهم في الموقع المسمى: القرين، وهو موقع وردت الإشارة إليه في الخريطة التي أصدرتها دائرة معارف الكويت في سنة 1958م، وشملت البلاد كلها.
- واهتموا بأن يقوموا بأعمال تحفظ سلامتهم وأمنهم وتبعد عنهم كل طامع، وقد رأوا أن الانتقال من القرين إلى موقع مرتفع نسبيا هو ما يحتفظ لهم بالحماية المطلوبة، فاتجهوا الى الموقع المقابل لقصر السيف (وهذا القصر لم يبن إلا في سنة 1907م)، وفي موقعهم الجديد ابتنوا لهم قلعة صغيرة يمكنها ان تؤدي المطلوب من الحماية، وسموها الكويت تصغيرا لاسم الكوت المنتشر شكله في المنطقة على القلاع المشابهة، وسرى الاسم المصغر - بعد ذلك - على البلاد كلها.
ونحن هنا نغض النظر عن كل ما قيل عن باني هذا الكوت الصغير، لأن كل ما قبل غير ما ذكرناه لا يتعدى الأقوال التي لا تعتمد على دليل، ولا تؤيدها طبيعة المنطقة التي نشأت فيها هذه القلعة، وقد بسطنا هذا الرأي في كتابنا: (الكويت تواجه الأطماع).
ولعل مما يجب ذكره هنا ما جاء في تقرير كتبه الماجور كوليبروك عن المنطقة بتاريخ 10 سبتمبر 1820م، فقال: «أول مستوطنة على رأس الخليج هي الكويت، التي تقع على مرفأ صالح لرسو السفن، ويقطنها خليط من العرب الخاضعين لآل صباح، وهم فرع من قبيلة العتوب، وتقوم على حمايتها قلعة مزودة بـ 20 مدفعا».
وبغض النظر عن ملاحظته عن العتوب حين ظن ان هذه التسمية لقبيلة كان منها آل صباح، فإن معلوماته الأخرى واضحة، أما العتوب فهم مجموعة انتقلت معا إلى الكويت في قديم الزمان، وكانت هذه المجموعة عاتبة على من كان يشاركهم في الموقع الذي هم فيه قبل ذلك، ومن هنا جاء الاسم.
لكن آل صباح من قبيلة عنزة لا شك في ذلك، وهي قبيلة كبيرة تنتمي إلى قبيلة أكبر منها هي بكر بن وائل.
أما فيما يتصل بأمر الدفاع عن النفس، فقد بادر أبناء الكويت في فترة حكم الشيخ عبدالله بن صباح بن جابر (1776 - 1814) إلى معركة دافعوا خلالها عن وطنهم، وانتصروا فيها على من هاجمهم، وتلك هي معركة الرقة المشهورة، التي جرت وقائعها بالقرب من جزيرة فيلكا في موقع بحري يدعى: الرقة.
وقد أعانهم الله على النصر، بفضل ما تزودوا به من خبرة وفهم لطبيعة البحر في بلادهم، ولاستعدادهم للدفاع عن الوطن ضد كل من يعتدي عليه فانتصروا.
القافلة الكويتية
ولانزال مستمرين في ذكر ما بدأنا به من المبادرات الكويتية الأولى، وممن هنا نبدأ في الحديث عن أمر مهم في هذا المجال الذي يدلنا على مبادرة كانت قائمة في وقت مبكر من تاريخ بلادنا، ذلك اننا سوف نورد هنا ما رواه د.ايفز البريطاني الذي كان في طريقه من الهند إلى بلاده مع مجموعة مصاحبة له.
وقد ورد ذكر ما حدث في كتاب ألفه ايفز عن رحلته بعد أن أنهاها، وملخص ما ورد في الكتاب مما نريد ذكره هو ما يلي:
مر هؤلاء الذين ذكرناهم بزعامة ايفز بجزيرة خرج التي كانت في طريقهم، وكان فيها ممثل لهولندا فاستقبلهم، وعلم منهم نيتهم السفر الى بلادهم عن طريق المرور بالعراق، فاقترح عليهم طريقا آخر، وذلك بالاستفادة في رحلتهم القادمة بالقافلة الكويتية التي تسير من الكويت الى حلب، وتتكون من 5 آلاف جمل، يعنى بها ألف رجل، منهم من يتولى حمايتها.
كان وصول د.ايفز وجماعته إلى خرج في سنة 1758، كما ورد في المصادر، ولم يذكر اسم الشيخ الذي تم الاتصال به في شأن رحلتهم. ويعد قيام مثل هذه القافلة من حيث الحجم ومن حيث بُعد مسافة الرحلة عملا كبيرا بمقاييس تلك الأيام، ويحسب ضمن المبادرات المهمة التي تقابل عن طريق البر تلك الجهود التي يبذلها الكويتيون عن طريق البحر كما ذكرنا آنفا.
وبعد مضي فترة الإنشاء بما رافقها من مبادرات ثم فترة التوجه إلى العمل المثمر في المجالات التي أتاحتها البيئة وسعى إليها أبناء الكويت جاءت فترة ثالثة هي فترة التثبيت، وهي الفترة التي كان للجانب الحكومي فيها دور كبير بدأ كما رأينا في سنة 1936م بنشأة مجلس المعارف واستمر بعد ذلك.
لكن النشاط الأهلي لم يتوقف في هذه الفترة، فقد كان لأبناء الكويت نشاطهم الاجتماعي والثقافي اضافة الى النشاط التجاري والبحري الذن ذكرناه فيما سبق.
ففي النشاط الأهلي نجد ما يلي:
- قيام الجمعية الخيرية في سنة 1913م.
- إنشاء النادي الادبي في سنة 1922م.
- إنشاء المكتبة العامة الاهلية في سنة 1928م.
- صدرت أول مجلة في سنة 1928م.
- مُثلت اول مسرحية في الكويت وهي (اسلام عمر) في سنة 1938م.
أما النشاط الحكومي الخاص بإنشاء المؤسسات التي قامت بإدارة شؤون البلاد على اختلافها، فمن السهل ان نجدها في كتابنا: «أحمد البشر الرومي.. قراءة في أوراقه الخاصة»، فقد ذكر في هذه الأوراق كل ما يتعلق بما نريده عن هذا الأمر، ومن ذلك:
- كتب في 7/6/1942: تأسست في هذه الأيام لجنة تموين سلمت إدارتها الى عبدالله اسحاق، وفتح لها مكان في بهيته.
- أورد في 1/3/1943 ما يثبت وجود مجلس الشورى الذي تعرض عليه اهم القرارات الحكومية.
- في اليوم الخامس من شهر يونيو لسنة 1943 كتب قائلا: سمعت أنه قد تأسست لجنة للاشراف على الصحة في الكويت وهم (نصف اليوسف النصف، عبدالحميد الصانع، احمد المشاري، عبدالله الزيد، مشاري الروضان).
وهذه هي بداية نشأة الجهاز الحكومي للصحة.
- أورد في اليوم الثامن من شهر يوليو لسنة 1943، ان احصائية جرت عرف منها ان عدد البيوت كان 8735 بيتا، اضافة الى ألفي ديوانية.
الخلاصة
هذا، وكل ما قدمناه انما هو نماذج لما قام به ابناء الكويت منذ سنة 1613م، وهي سنة التأسيس، الى ما يقرب من النصف الأول للقرن العشرين، ويكفينا ذلك للدلالة على ما اردنا التعبير عنه بهذا الخصوص.
لقد رأينا الكويت، وهي وطن المبادرات منذ المبادرة الأولى التي ادت الى نشأتها، ثم تمكين النظام في ارجائها، والحفاظ عليها آمنة مستقرة، الى حين قيام أهلها، كل في اتجاهه، بتقديم كل جديد من الاعمال التي تصب في المصلحة العامة.
ومن اجل كل ذلك فإننا نتساءل اليوم: أليس من واجبنا الاقتداء بأولئك الرجال الذين تركوا لنا هذا الارث الفاخر في مجالات متعددة؟ وقد رفعت أعمالهم اسم بلادنا عاليا بين الأمم؟
أليس من واجبنا ان نطرح كل خلاف يزرعه المخالفون بيننا لكي نتفرغ لخدمة وطننا، وإعلاء مكانته عن طريق المبادرات النافعة التي يبقى اثرها على مر السنين، وتذكر حالنا الاجيال القادمة من ابنائنا، كما نذكر الآن آباءنا وأجدادنا بما قاموا به من اعمال تدل على مقدرة كبيرة على الابتكار، والبحث الدائب عن كل ما يرفع شأن الوطن وشأنهم معا.
ما أصعب الحياة على أمة تترك التنمية والبناء وتركن الى الإهمال والهدم، بل ما أصعبها إذا اتجه الأبناء الى الشقاق والخلاف وطعن بعضهم البعض الآخر، وتبادل قارص القول، مع كثير من التجني، ملتفتين عن واجباتهم نحو وطنهم وشركائهم فيه.
أليس من واجبنا ان نطرح كل خلاف بيننا لكي نبادر الى القيام بأعمال، فيها وفاء للوطن وتكاتف بين أبنائه، وفيها الابتكار والتجديد المستمر.
ما أصعب الحياة على أمة تترك التقدم والإنشاء، وتلتفت الى المهاترات فيما بين ابنائها، أكرر هذا القول وأنا في غاية الألم لما أراه من بعض ابناء بلادي في هذه الأيام.
إن كل ما نرجوه يقظة ضمير تدفع الجميع الى تلمس المصلحة العامة، وتجعلهم يبتعدون عن الانانية، وحب الاستئثار بكل شيء، وتدفع بهم الى الطريق السليم بالمبادرة الى كل ما فيه خدمة للكويت التي أعطتهم كثيرا من خيراتها نريد ان نرى رجالا مخلصين، ذوي امانة، ووفاء، يتجهون الى مصلحة الوطن بإشاعة الوفاق بين المواطنين اولا، ثم بالاهتمام بالتنمية التي ينبغي ان تكون شغلهم الشاغل، ونحن على يقين من ان هؤلاء الذين نشير اليهم سوف لا يترددون في حمل راية التنمية، بعد حمل راية الوفاق، وعلى يقين من ان الروح الوطنية لاتزال عالية في نفوس ابناء الكويت، وهم يعلمون جيدا ان ما نأمل منهم القيام به لن يتم الوصول الى إنجازه الا بالتكاتف والتآزر، على ان يكون ذلك مقرونا بالمحبة والوفاء للوطن وللمواطنين.