قد تجمعنا الحياة بأناس نحبهم ونعتاد عليهم، ونشعر بأن حياتنا قد اكتملت من بعد الله سبحانه بوجودهم، وصارت لا تحلو أيامنا إلا معهم، ولا تنجلي ضغوطاتنا وظروفنا وهمومنا إلا بقربهم.
وبمشاعرنا الصادقة ونوايانا النقية، نستبعد كل البعد، أن يكون من بينهم ذلك الأناني، الغيور، أو ذلك الكاذب الجسور الذي أصبح يتقن أكاذيبه على غيره بكل سهولة، إلى أن صار يتفنن بها وصار يستطيع أيضا التفرقة بين الأفكار النظرية الرنانة ونصوص الواقع ثقيلة الظل الحنانة، غير ملتفت لمشاعر غيره وغير آبه بها، بسبب خسته ولؤمه!.
لتدرك بعد فوات الأوان أن النفس عندما تستبعد المستحيل، فإن المتبقي أمامك يكون الحقيقة مهما بلغت شدة الصدمة وغرابتها! كما ستدرك أيضا أن هناك قلة قليلة جدا ممن يستحقون بأن تكون صادقا ومخلصا معهم، وكثر أولئك الذين لا يستحقون صدقك وإخلاصك، أولئك الذين عادة ما يؤكدون لك أن هناك قلوبا كانت ومازالت مطلية بالسواد، فلا يتركون من خلال معرفتهم بك، سوى غصة مصاحبة لذكرياتهم، بخلاف الندم والحسرة التي ستسكن بين حنايا صدرك، ويصعب بسهولة زوالها! فهم من الفئات التي لا يهتمون ولا يكترثون إلا بأنفسهم العكرة، غير ملتفتين لذلك الألم الذي ينخر بسببهم بداخلك!.
نعم، فقد نكون تغاضينا عنهم مرة ومرتين وثلاثا، واستثنينا الكثير من الأمور لأجلهم لا لأجلنا، علهم يخجلون من أنفسهم ذات مرة على الأقل بقدر تغاضينا لها، ومن كثرة تكرارها، أو يستحون من تقديرك الجم لهم، لكنهم دائما ما يفاجئونك بإثقال كاهلك باليأس والخيبة، لأنك دائما ما تجدهم يعرضون عن تقديرك وكل حسناتك، باحثين فقط عن هفوة صغيرة من هفواتك، ليخبروا بها الناس على مرأى ومسمع، ما يجعلك تغرق في بحر من الحيرة والتوهان، تفكر دون مرتع!
يقال:
وما بال أقوام لئام ليس عندهم
عهد وليس لهم دين إذا ائتمنوا
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا
منا وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقد تكون بعض تلك الأمور بسيطة، وعلى الرغم من بساطتها إلا انهم لن يستوعبوا أنها صارت تختبئ بين طيات يومنا، إلى ان جرحت محاجرنا وأصبحت تؤذينا! بل وتهلكنا! بسبب شحاحة طباعهم! بسيطة وقد لا تعني لهم شيئا، إلا أنها في المقابل تعني لنا الشيء الكبير! والكبير جدا.
فيكفي أن من بعدها وبعد مرور الأيام ستتضح لنا أشياء كثيرة، أشياء ذات معنى عميق يصطحب معه العديد من التساؤلات، زائد اختلاف الإجابات، والتي ستصبح فيما بعد كالنجوم بالنسبة لنا، نجوم تجعلنا نضع رؤوسنا على أكتافنا نسرح بتأملها، وبقدر تأملنا وذهولنا! تعلمنا!
كما قال آثر دويل: إن الحياة أكثر غرابة إلى أقصى حد من أي شيء قد يتخيله العقل البشري.
فالبعض مهما تصنعت الصمت أمام غمزهم ولمزهم وعدم انتباهك لوقاحتهم، ظنوا بأنك ضعيف، سفيه، جاهل لا تعي شيئا.
يشعرونك وكأنك شجرة جافة، باعتقادهم انهم سيبهمونك بتصرفاتهم وسيستطيعون أن يخفوا عنك من خلال طريقة كلامهم، تلك البقعة الداكنة المطبوعة في داخلهم، خاصة بعد أن فضحتهم مواقفهم، كما ظنوا أيضا أنهم سينسونك فقر واقع حقيقتهم، ولؤمهم، هذا وبخلاف مسار دناءتهم وغيرتهم! قال ابن القيم رحمه الله: «وأما اللئيم فإنه يصبر اضطرارا، فإنه يحوم حول ساحة الجزع، فلا يراها تجدي عليه شيئا، فيصبر صبر الموثق للضرب، وأيضا فالكريم يصبر في طاعة الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان، فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم، وأقل الناس صبرا في طاعة ربهم، فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء، ويصبر في تحمل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه».
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الخلق، وأن يعيذنا من مساوئ الأخلاق والنفاق.