أمضيت وقتا طويلا في متابعة ألفاظ اللهجة الكويتية، ومقارنتها بألفاظ اللغة العربية الفصحى، وقد وجدت في هذا سعادتي لأنني عن طريق هذا الاهتمام قرأت كثيرا من الكتب، وتابعت شعر عدد من شعراء اللغة الفصحى واللهجة العامية.
واستطعت أن أدرك مدى توافر الألفاظ التي تشابه ألفاظ لهجتنا في اللغة العربية الفصحى، ولذا فقد قمت بكتابة كل ما توصلت إليه في أكثر من كتاب، وأكثر من مقال.
ولقد اشتهر كتابي: «ألفاظ اللهجة الكويتية في كتاب لسان العرب لابن منظور» لأنه كان أول كتاب من نوعه عند صدوره من حيث الاهتمام بمسألة المقارنة بما يرد في اللهجة الكويتية من ألفاظ بما يشبهها في اللغة العربية الفصحى.
ولقد كنت ابتدأت تأليف هذا الكتاب في سنة 1997م، ثم طبع في السنة التي تلتها، وطبع مرة أخرى في سنة 2004م، مع زيادات مهمة، ولقد تابعت فيه رصد ما في كتاب لسان العرب من ألفاظ تطابق لفظا ومعنى ألفاظ اللهجة الكويتية، وهناك إضافة أخرى سوف تأتي إن شاء الله في الطبعة الثالثة للكتاب.
ولم أترك متابعة المقارنة بين اللغة العربية الفصحى ولهجة الكويت في كثير من أعمالي المطبوعة، التي كان منها ما صدر في سنة 2019م تحت عنوان: «في محيط اللهجة الكويتية».
ولقد أجملت في مقدمة هذا الكتاب (الأخير) رأيي في الأصول العربية الواضحة للهجة أبناء الكويت، وأكدت انبثاق هذه اللهجة من اللغة الأم. وقد قلت في مقدمة هذا الكتاب:
«وضعت في اهتمامي ـ دائما ـ رصد اللهجة الكويتية ومقارنتها باللغة العربية الفصحى، وذلك من أجل الاستدلال على أصول لهجتنا والبعد بها عن غيرها من اللهجات المتأثرة بألفاظ غير عربية.
ولا غرابة في أن تكون كل الدلائل تصل بنا إلى الأصول العربية لما ننطق به في لهجتنا، فبلادنا (الكويت) جزء من جزيرة العرب، وأهلها الأقدمون لا ينفصمون عن أصولهم العربية، ولا عن الألفاظ الفصيحة التي ورثوها ممن سبقهم من أهلهم.
وقد تم إيضاح ذلك في مواضع كثيرة تم نشرها ومنها كتابنا: «الكويت عبر القرون» الذي صدر في سنة 2001م. وقد تناول التاريخ القديم للكويت ثم عرج على التاريخ العربي الذي شهدته أرضها بما في ذلك ما مر عليها في العصر الإسلامي.
إذن!! فلا منازعة في أصول الكويت، ولا في لغتها ولا لهجة أهلها التي انبثقت من اللغة الفصحى الأم. ومما ينبغي علينا هو أن نحافظ على هذا الإرث الثقافي المهم.
فاللغة عنوان البلاد وحاضنة العلم والثقافة والأدب، أما اللهجة فهي فرع لا ينكر من أصل اللغة، وفيها ألفاظ كثيرة تتشابه معها إن لم تكن طبق الأصل من ألفاظها، ولقد وجدنا في هذه اللهجة اتجاها إلى الأدب كما نرى في الشعر الشعبي (النبطي)، وكما نرى في الحكايات الشعبية التي يرددها الناس في مجالسهم الخاصة، وبهذا يتبين لنا أن لهجتنا لهجة حية متماسكة، مرتبطة بأمها بأقوى رباط».
ثم أضفت إلى ذلك أننا ـ مع شديد الأسف ـ قد بدأنا الآن في سماع عدد كبير من أبنائنا وهم يتخلون عن لهجة وطنهم، ويطمسونها، بل ويخلطونها بألفاظ من لهجات أخرى، أو لغات أخرى، حتى وجدنا أنفسنا نضيق إذا استمعنا إلى بعض الأحاديث وهي تتردد في بعض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وقد ابتعدت عن اللغة الفصحى وعن اللهجة العامية في وقت واحد.
ولعل من أشد ما يؤسف له أن نجد بعض من شغلوا أنفسهم بالحديث عن اللهجة الكويتية ـ على أي صورة كان هذا الانشغال ـ يعتمدون على آرائهم الشخصية في تفسير معاني الألفاظ، بل ويفتعلون ألفاظا أخرى لم نسمعها من قبل، مما جعل أحاديث اليوم خليطا تأنف النفس أن تسمعه.
وأعجب ما في الأمر هو الجرأة التي يتصف بها هذا المنشغل باللهجة، فتجعله يتلاعب بها، ويدخل عليها ما ليس فيها، حتى لقد صرنا نتساءل عما إذا كان هذا هو الحال في وقتنا الحاضر، فكيف يكون أمر لهجتنا في المستقبل إذا سار هؤلاء الذين أعنيهم على المنوال الذين صاروا يسيرون عليه.
ولئن تساءلنا ـ الآن ـ عن السبب في تجاهل لهجتنا، واللعب بمفرداتها، وإدخال ما ليس منها إليها، فإننا سوف نجد ذلك منحصرا في سببين هما:
1 ـ ضعف الشعور بالانتماء، وعدم الإحساس بما تقتضيه المواطنة الحقيقية التي لا شك في أن من رموزها لهجة الوطن.
2 ـ تقليد لهجات الأعداد الغفيرة التي وفدت إلى الكويت منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي، ثم تكاثرت، حتى صارت أسرهم تنافس الأسر الكويتية من حيث العدد، وكانت لهم لهجاتهم الخاصة التي يتحدثون بها ولا يقبلون عنها بديلا، وقد استمع النشء الكويتي إلى ألفاظ لم يكن أهله يتحدثون بها، ثم بدأ هو باستعمالها في أحاديثه.
ومن هنا جاءت المشكلة، لأنها أدت إلى توسع أهل البلاد في استعمال ألفاظ بعض اللهجات المسموعة بينهم، وهذا ما جعل لهجتنا تتعرض إلى ما نخشاه عليها من ضياع.
لقد صارت لهجتنا الجميلة تعاني من مشكلات سببها بعض أبنائها، وهذا عيب يحسب علينا إن لم نتلافه، فنحن نرى الآن تباعدا عن النطق بها وإدخال ألفاظ من لهجات أخرى عليها، وتحريفا لألفاظها في بعض الأحيان. وهذا ما يدعو إلى إثارة هذا الموضوع بين وقت وآخر.
لست الآن في مجال الحديث عن علاج هذه المشكلة. فإن علاجها في أيدي مفتعليها، الذين ينبغي منهم الحرص على كل تراث وطنهم، ومن هذا التراث لهجة الحديث اليومي في البلاد، وهي: اللهجة الكويتية.
ولكنني أريد هنا أن أشير إلى أمر مهم هو الذي دعاني إلى إثارة هذا الموضوع، وهو بيان مدى الصلة بين لهجة أبناء الكويت الحقيقية ولغة آبائهم العرب القدماء، وذلك عن طريق النظر في بعض ما ورد في الآثار الشعرية التي نراها الآن في كتب الأدب وفي دواوين الشعراء القدامى، مما يدلنا على تمام الصلة بين لهجتنا ولغتنا الفصحى، وذلك كما يلي:
إن من ملامح حديثنا هذا ـ منذ بدايته ـ ما يدل على الرغبة في العودة إلى التراث العربي الفصيح، لكي نقارن بعض ألفاظ منه بألفاظ منطوقة في اللهجة الكويتية، وأهم ما يمكن الرجوع إليه في هذا الشأن هو الشعر، ومنه نختار ما يلي:
1 ـ جرت اللهجة الكويتية على نطق الجيم ياء في بعض الأحيان، وقد وجدنا شبيها لذلك في الفصحى، وذلك عند الاطلاع على قصيدة قالها الشاعر يزيد بن الحكم الثقفي وهو يعاتب أخاه، وقد ردد الرواة هذه القصيدة، وأعجبوا بها، وأثبتتها كتب الأدب العربي لما فيها من جودة وإتقان وبلاغة.
الكلمة التي تلفت النظر هي قوله (منعوي) وأصلها (منعوج) واللفظ بالياء وبهذه الصيغة هو الوارد في لهجتنا، وقد ورد في قوله:
تفاوض من أطوي طوى الكشح دونه
ومن دون من صافيته أنت منعوي
أي مائل وأعوج، ونحن نقول: اشفيك عوى، ونقول هذا شيء منعوي أي مائل ميلانا واضحا.
يقول الشاعر في هذا البيت: أنت تتحدث مع من أعرض عنه ولا أرتبط معه بصلة، وتميل عن كل من أصافيه وأقربه إلى نفسي.
وفي القصيدة ذاتها:
نداك عن المولى ونصرك عاتم
وأنت له بالظلم والغمر مختوي
تود له لو ناله ناب حية
ربيب صفاة بين لهبين منحوي
وقبلها:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى
بأجرامه من قلة النيق منهوي
يقول: أنت في كرمك على ابن عمك ونصرك له بطيء في تقديم العون حينما يحتاج إليه، بل أنت تحتويه بالظلم والحقد عليه، وتود أن لو أصابه ناب من أنياب حية ذكر تعيش على أرض صخرية ملساء، قرب شق من شقوق جبل.
وهو يعني بقوله: لهبين، شقيق في جبل هما بالقرب من الصفاة التي ذكرها، وأما قوله: وكم موطن لولاي طحت، ففيه ما يدل على أن أخاه كان يتعذب من عدة مواقف كان معرضا خلالها إلى الانهيار والسقوط، بل والهلاك، وهو في ذلك شبيه بمن يهوى من قمة جبل.
وفي هذه الأبيات الثلاثة بعض ما تنبغي الإشارة إليه، مثل:
ـ قوله: ربيب صفاة، والصفاة كما مر بنا هي الأرض الصخرية الملساء، ولدينا في الكويت الموقع المعروف باسم الصفاة، وكان في البدء أرضا شديدة الصلابة خالية من كل شيء، موقعها واسمها معروفان إلى يومنا هذا، وقد شهدت الصفاة التي نعرفها أنشطة كثيرة، ففيها بعض أوائل الدوائر الحكومية، وفيها ساحة كانت تجري فيها الاحتفالات الرسمية، وتقام العرضات.
وتتجدد فيها في ليالي شهر رمضان حياة خاصة، حيث تكثر فيها المقاهي التي كانت تقام بصورة عشوائية، ويكثر حول هذه المقاهي الباعة الذين يعرضون مختلف البضاعات الخفيفة، فيخرج الناس ليلا للاستمتاع بما يرونه خلال مرورهم بين تلك المقاهي، وفي أيام الأعياد تنصب فيها ألعاب الأطفال ويملأ جوانبها ضجيجهم الذي يدل على استمتاعهم بتلك الألعاب التي لا يرونها إلا في مثل هذه الأيام.
وتتميز الصفاة عندنا بأن في جانب قصي منها سوق تباع فيه الأغنام، حيث تعرض بأنواعها، ومن كافة مصادرها، فيأتي الناس ـ يوميا ـ إلى هذا السوق للشراء أو للبيع.
وقد ظن البعض أن لفظ (صفاة) يعني مباشرة سوق الغنم متناسين كافة الأنشطة التي كانت قائمة بها في زمننا القديم، ولذا فقد سمعنا من يقول عن أسواق الغنم المستحدثة في بعض الأماكن الكويتية صفاة الجهراء وصفاة الشويخ وغيرهما، وليس في المكان صفاة بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ، وليس هذا بصحيح إذ إننا لا نعرف في الكويت مكانا يطلق عليه اسم الصفاة غير هذا الذي تحدثنا عنه، وقد كان في يوم ما، مركز العاصمة، ومجالا لأنشطة كثيرة، وكان إلى جانبه سوق تباع فيه الأغنام يطلق عليه اسم: سوق الغنم لا غير.
ـ قول الشاعر: طحت، ومعناه في اللهجة: سقطت ووقعت، وقد شرح في المراجع على أن معناه هلكت.
ومما يلفت النظر أن البيت يدل على أن المقصود هو اسقطت، كما قلنا، لأن الشاعر قال: كما هوى أي كما سقط.
ولكن المعنى المذكور في المراجع قد يكون صحيحا من حيث دلالته على الهلاك، ولكنه غير مقصود هنا، ويضاف إلى هذا أننا حين نتساءل عن حال مريض فنقول:
ـ أشلون فلان؟
يأتينا الرد.
ـ طايح، ويقصد به، أن المرض قد اشتد به حتى لا يستطيع الحركة، وأقرب معنى لذلك أنه ساقط في مكانه لا يتحرك.
ـ وفي القصيدة بيت آخر فيه لفظ من ألفاظ اللهجة، وهو:
تبدل خليلا بي كشكلك شكله
فإني خليلا صالحا لك مقتوي
واللفظ المقصود هو قوله: شكلك، ومعناه هنا شبهك، ومثلك، واللهجة تستعمل هذا اللفظ بمعناه هذا.
ثم يضف: إنني سوف استبدل بك خليلا صالحا غيرك.
2 ـ وكان هبة الله بن علي المعروف بابن الشجري (450 هـ ـ 542 هـ) من المهتمين برواية الشعر العربي السابق لعصره، ومن بين المجموعات التي أثرت عنه هذه المجموعة التي حققها أ.علي محمد البجاوي وطبعت في سنة 1975م بمصر.
وتطالعنا في هذه المجموعة بعض ألفاظ اللهجة الكويتية وقد كان العرب الأقدمون ينطقون بها كما ننطق بها الآن، وفي هذه الأمثلة ما يدل على تمسكنا باللغة الفصحى عن طريق ذلك.
ومما نشير إليه ما يلي:
أ ـ أورد ابن الشجري قصيدة للمتلمس الضبعي، يرد بها على قوم كانوا يعيرونه بأمه فيقول في مطلعها:
يعيرني أمي رجال ولا أرى
أخا كرم، إلا بأن يتكرماثم يتحدث عن قومه، وما يقومون به من أعمال يدافعون بها عن حقيقتهم وعن شرفهم، وينحي باللائمة على شخص اسمه الحارث كان قد قال عن نسبه قولا سيئا. ومن ذلك هذا البيت:
أحارث إنا لو تساط دماؤنا
تزايلن حتى لا يمس دم دماوهو يدعى أنه معروف في حياته وفي مماته، وأنه لو قتل واختلطت دماؤه بدماء غيره لتزايلت عن دماء الآخرين.
وهنا نرى لفظ: تساط، بمعنى تخلط وهو لفظ من ألفاظ لهجتنا، يستعمل خاصة في الطبخ حين تخلط المواد ببعضها بواسطة مغرفة يمسك بها من يتولى إعداد الطعام، ويديرها بيده حتى تختلط المواد المطبوخة ببعضها.
ب ـ وفي ص 10 من الكتاب، ورد بيت من الشعر ضمن قصيدة قالها الشاعر بشامة بن الغدير، كان مطلعها:
هجرت أمامة هجرا طويلا
وحملك النأي عبئا ثقيلا(أمامة: اسم امرأة، النأي: البعد).
وفي هذه القصيدة قوله:
إذا أقبـــــلت قلـــت مذعـــورة
من الرمد تلحق هيقا ذمولا
وإن أدبرت قلت مشحونة
أطاع لها الريح قلعا جفولاوكلمة مشحونة في آخر شطر البيت الثاني، دارجة في اللهجة الكويتية بالمعنى الذي أراده هذا الشاعر.
إنه يصف ناقته، ومن وصفه لها أنها إذا أقبلت رأيتها فكأنها نعامة مغبرة اللون تتبع ذكرا من جنسها دقيق الشكل وطويل، وهي إن أدبرت رآها الرائي وكأنها سفينة مملوءة (مشحونة) فذلك أقوم لسيرها، وكأن الريح قد أطاعت شراعها، ولذلك فهي مسرعة (جفول).
ج ـ ومما ورد في الكتاب المذكور ورواه عن الشاعر الشنفري الأزدي الذي قال قصيدة مشهورة مطلعها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لأميلومما نريد الإشارة إليه من هذه القصيدة البيت الذي تحدث فيه عن نفسه ضمن أبيات أخرى فقال:
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا
أزل تهاداه التنائف أطحلوالأزل نوع من الذئاب، وتهاداه: تحيله تنوفة إلى أخرى، وجمع تنوفة تنائف كما جاء في البيت المذكور، والأطحل هو ما كان لونه بين الغبرة والبياض. والتنائف بمعناها هذا من ألفاظ لهجتنا وتنطق: تنايف.
3 ـ وهذه أبيات متفرقة لعدد من الشعراء جاءت في خلالها ألفاظ مما هو دارج في اللهجة الكويتية.
فنحن نرى الشاعر المرار بن منقذ وهو يتحدث عن طيف زاره ليلا، وكان هو وأصحابه هاجعين حول إبلهم، وقد اشتبه عليه الأمر حتى إنه ليقول:
فقمت للطيف مرتاعا فأرقني
فقلت أهي سرت أم عادني حلمثم انتقل إلى صاحبة ذلك الطيف الزائر، وأخذ يصفها قائلا:
وكان عهدي بها والمشي يبهضها
من القريب ومنها النوم والسأم
فأدرج في بيته هذا قوله (يبهضها) بمعنى: يغلب عليها التعب والإجهاد عندما تمشي، وهذا اللفظ من ألفاظ لهجتنا، يقول أحدنا: أردت أن أحمل ذلك الشيء، ولكنه (بهضني) فهو ثقيل الوزن.
ونجد في أسماء الأسماك عندنا ما هو شبيه بما كان معروفا في قديم العرب، وكانوا يطلقون عليه الأسماء التي نطلقها اليوم.
وقد لاحظت أن شاعرين كانا يقدحان بقبيلة الأزد العربية المعروفة ـ لسبب في نفسيهما ـ وكان أحد هذين الشاعرين هو الشاعر جرير بن عطية المعروف ضمن شعراء العصر الأموي، وكان يقارن بكبار شعراء ذلك العصر. يقول في قصيدة له:
كانوا إذا جعلوا في صبرهم بصلا
ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفواوقد ذكر جرير الكنعد هنا، وهو سمك لايزال يباع في سوق الكويت، ولكن اللهجة تجعل الكاف مكشكشة بمعنى أنها تنطق كما تنطق الجيم التي توضع تحتها ثلاث نقط.
فنقول: چنعد، وهذا لا يغير في نوع السمك المعروف جيدا لدينا:
(الصبر: الطعام، جذفوا: كفروا بالنعمة).
وأما البيت الثاني فهو لشاعر لم أعثر على اسمه، وكان صريحا في حديثه عن الأزد، وذلك في بيته الوارد في كتاب لسان العرب، وهو قوله:
قل لطغام الأزد: لا تبطروا
بالشيم والجريث والكنعدوقد ذكر في بيته هذا ثلاثة أصناف من السمك هي: الشيم والكنعد، وهما معروفان لدينا إلى وقتنا الحاضر، أما الصنف الثالث فهو الجريث، وقد ذكر عنه في معاجم اللغة العربية أنه نوع من السمك طويل يشبه الحيات، ويبدو أن أقرب ما نعرفه من الأسماك وله شبه به هو ما نسميه: السلس، فهو أقرب ما يكون إلى وصفهم.
ولا شك في أن المزيد من البحث سوف يأتينا بعدد آخر من أسماء الأسماك الدارجة بيننا اليوم، وقد انحدرت إلينا من آبائنا من العرب السابقين، وليس هذا هو مجال الحديث عن كل أسماء الأسماك مقارنة بما هو معروف عندنا، فذلك أمر يطول تشهد به المراجع الكثيرة ومنها دواوين الشعر والمعاجم.
والسمك مذكور في الشعر الكويتي الحديث، بما في ذلك بيان أنواعه المختلفة، وأسماء هذه الأنواع، ونرى في هذا الشعر أسماء قديمة وأسماء مستحدثة، ولكنها كلها مما ينطق به الناس هنا عندما يتحدثون فيما بينهم.
وسوف نذكر شيئا من ذلك مثالا لما تقدم.
ـ ذكر سمك الميد (وهو جمع ميدة) إبان الأزمة السمكية التي مرت على الميد اعتبارا من اليوم العاشر من شهر أغسطس لسنة 2001م، ثم استمرت وقتا طويلا.
وقد شاهدت المأساة على ساحل البحر حين كانت هذه الأسماك تتقافر ثم تموت فيرميها البحر إلى الشاطئ، فقلت:
أيا ميدة غيبتك المنون
وأخنت عليك صروف الزمن
تقاذفك البحر محمولة
على موجة منه لم تستكن
رأيتك بين ثنايا الرمال،
وجسمك يرشح منه العفن
وحولك من قومك الهالكون،
وكل بمقتله مرتهن
والقصيدة طويلة وقد نشرت في صحيفة الوطن في حينها.
ولقد اطلع عليها الأستاذ الشاعر المرحوم عبدالله زكريا الأنصاري فعارضها بقصيدة جميلة ذكر في فقرة منها بعض أسماك الكويت فقال:
فمات المزيزي مات البياح،
ومات الزبيدي غالي الثمن
ومات السبيطي والمزلقان،
وحتى الزمارير تحت السفن
فأين الچموه وأين الشعوم،
وأين نقارير هذا الوطنوذكر الشاعر محمد أحمد المشاري السمك في قصيدة بين فيها بعض ما قلته أثناء تلك الأزمة، مما أثر على أذواق الناس حتى في طعم اللحوم:
مللنا لحمة الظأن
وصار مذاقها مرا
وشح السوق بالأسماك
حتى لم تعد تشرى
وفي هذا ما يكفي.
٭٭٭
وأنا أتساءل بعد كل ما نقدم حول اللهجة الكويتية، وعلاقتها باللغة العربية الفصحى، أليس من المهم أن نعنى بلهجتنا التي تستمد أكثر ألفاظها من الفصحى، بدلا من أن نتلاعب بها من حيث الألفاظ والمعاني، ومن حيث إدخال ألفاظ غريبة من لهجات أخرى، ولغات غريبة عليها، حتى لقد أصبحنا لا نجد في حديث اليوم ـ فيما بيننا ـ ما يرجع بنا إلى الأمس في كل ما نقوله أو نسمعه من كلام، بل لقد كادت لهجتنا تكون مرقعة نأمل من أبنائها الالتفات إليها، والعناية بها وتعليمها للأجيال القادمة، حتى تسير هذه الأجيال على نهج الأجداد في أحاديثهم اليومية.

