سُئل أحد النساك الصينيين فيما يقارب عام 1850 عما إذا كان الفرد الصيني العارف بالدراسات الصينية القديمة، هل يحتاج للسفر وطلب العلم ومعرفة ثقافات الشعوب المختلفة؟ فأجاب: إن كان عارفا حقا بالتراث الصيني فلا حاجة له بدراسة غيرها، قد يكون هذا الناسك اشتهر بهذه الإجابة، لكن كان لسان حال المجتمع الصيني منذ القدم تؤيد ما ذهب إليه، فهم من أكثر المجتمعات في العالم التي تقدس أجدادها وتراثها لدرجة أن عبادة الأجداد أصبحت ديانة، فلا يكاد يخلو بيت صيني في الصين القديمة من مذبح للآباء، ويقدمون لهم القرابين صباح كل يوم، والإيمان بهذه الفكرة جر على الصين الكثير من الويلات والاستعمار، لأن معرفتهم كانت محدودة بالثقافات والأفكار التي تطرح في الخارج، بعكس جيرانهم اليابانيين الذين يتحلون بأفكار مقاربة للثقافة الصينية لكنهم استفادوا من التجارب وانطلقوا بسرعة لمعرفة الفكر الأوروبي وعقدوا الاتفاقيات وبعثوا البعثات الدراسية لأوروبا، ونتيجة لذلك عوضا أن يتم استعمارهم استعمروا هم بدورهم شرق آسيا.
الصين الدولة التي عانت من الاحتلال من دول مختلفة متعاقبة، فهمت الدرس بعد معاناة وانفتحت على الثقافات الأخرى وتعلموا من علومهم، وما زال يرن في أذني كلام صديق ياباني في هذا الموضوع، وهو دكتور في الفيزياء، حين قال: لدي استعداد أن أعطي محاضرات في كل دول العالم إلا الصين، فلما سألت عن السبب قال: الصينيون لديهم شغف ليس له نظير في العلم، كميات الطلبة ضخمة، ويدونون كل كلمة، والمحاضرة التي وقتها ساعة، يمتد وقت الأسئلة لأكثر من ساعتين، وهذا الوضع معاكس لما كانت عليه الثقافة الصينية قبل الاستعمار، وهذا الانفتاح هو السبب الرئيسي لما عليه الصين من تقدم حاليا.
أعتقد أننا كمجتمعات عربية موروثنا الديني والثقافي يحث على طلب العلم ومعرفة ثقافات ولغات المجتمعات الأخرى، ولم يكن لدينا في عز الحضارة الإسلامية مانع من التعلم من الثقافات والمجتمعات الأخرى، ولكن بعد تراجع الحضارة وتفتت الدول العربية، أصبح لدى المجتمعات ردة فعل معاكسة، فأخذنا طريقة للهروب من الواقع، أصبحنا نتغنى بأمجاد أجدادنا، وصنعنا لهم أصناما ضخمة في عقولنا، وكلما تم طرح موضوع عن التطور أو التنمية، تحول النقاش عن هذه الأصنام والتبجيل فيها، دون تحريك ساكن، نعم أرسلنا البعثات للتعلم ولكن لم نعطهم المجال الكافي لتطوير أفكار المجتمع، وصنعنا جدارا عازلا فكريا بين من يحمل الأفكار التطورية وبين المجتمع، وأصبحت الأولوية لمن يمجد التراث ويرفض أي فكر تقدمي، فأصبحنا نستنسخ التاريخ الصيني لكن بالطريقة العربية.