سُنة الحياة وشريعة الله تقول، ما من أحد يدعي أنه قوي إلا وهناك من هو أقوى منه، أو ذكي إلا ويلاقي من هو أذكى منه، ولا عالم إلا وهناك من هو أعلم منه، وهذا المثل يضرب للقوي يلقى من هو أقوى منه، والشديد يلقى من هو أشد منه، والمثل من الأمثال العربية الدارجة التي تحكي واقعا ملموسا، ويشبه إلى حد بعيد قولهم أيضا «كل طامة عليها طامة» أو قلنا: كل آفة عليها من الله آفة، فكيف بالريح وقد لاقت إعصارا، أين الريح من الإعصار، والإعصار الريح الشديدة تثير الغبار حتى يصعد بالسماء.
إن هذه الأمثال مأخوذة من واقع الحياة، فهي عصارة تجارب مر بها الناس، ولنا فيها العبرة والعظة، والحقيقة أن بعض الناس يظن في نفسه ما ليس فيها، فيعتقد واهما أنه عارفة زمانه، وفريد عصره وأوانه، بلغ من العلم أطوريه، لا يشبهه أحد ولا يصل إلى مدى تبحره وعلمه كائن من كان، فهو الفاهم وحده في هذا البلد، بتحد وعنجهية، كيف لا يكون كذلك وهو المحلل والمنظر والألمعي، أما سواه فلا يفهم شيئا، وكأنه الوحيد الذي يستطيع معرفة باطن الأمور وظاهرها.
وقد نسي هذا الألمعي الأريب أو تناسى قول المولى عز وجل: (وفوق كل ذي علم عليم)، فمهما بلغ المرء من علم ومهما بلغت مكانته، فهناك من هو أعلم منه، حيث يستمر هذا الألمعي المفلق على هذه الحالة برهة من الزمن، وبينما هو كذلك في غيه وعلى ظنه في نفسه إذا به يفاجأ بمن هو أكثر فهما وعلما منه وبفارق كبير، فتهون عليه نفسه وتصغر بعد عزها، فينطوي ويعرف أن الله حق، لقد علمتنا الحياة أمورا كثيرة ومنها أنه ما من عالم في هذه الدنيا العريضة مهما بلغ علمه إلا وفوقه من هو أعلم منه، سنة الله في خلقه، والله سبحانه وتعالى وحده فوق كل عالم، من هنا نقول لكل من يظن في نفسه الكمال والفهم الزائد ألا يغتر كثيرا بنفسه، فكل آفة عليها من الله آفة، فلا يظن أحد أنه أعلم الناس، فتمنيه نفسه الباطل، فيحدث له ما جرى لصاحبنا آنفا، ولله در أبو نواس فقد نطق الحكمة، وأفادنا حيث يقول:
قل للذي يدعي بالعلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
ومن يظن أنه لا شبيه له ولا ند واهم، والمسكين حقا من عاش في هذا الوهم، وبلغ المدى فيه، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى، تأملوا قصة النبي موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف إن شئتم، لتتضح لكم الصورة، وتظهر لكم الحقيقة جلية واضحة، وقد كان عبدالله بن العباس عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته في الإسلام عظيمة، ومع ذلك فهو لا يستحي أن يقول «لا أعلم»، وقد قالها مرارا وتكرارا، علما بأن هذا الصحابي الجليل قرأ وفسر على منبر مسجد البصرة سورة البقرة كلمة كلمة، وحرفا حرفا، من الظهر إلى العصر.
فقاتل الله الغرور أينما ثقف، فهو مشكلة المشاكل وإذا أصيب المرء بهذا الداء العياء، زادت ثقته بنفسه عن حدها، فأعطى نفسه فوق حجمها وحملها ما لا تطيق، والثقة الزائدة بالنفس تقود إلى تدميرها، وتقضي على الإنسان، خاصة إذا أخذت طابع النرجسية.
أيها السادة، هناك تفاوت في العلم بين العلماء، فكلنا طلبة علم مهما بلغنا من العلم مكانة، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه وسمع ووعى.