بيروت: يحلو لكثيرين في هذه الأيام أن يقيموا أوجه شبه بين الوضع الذي يمر به لبنان في هذه المرحلة (2020 2022) والوضع الذي واجهه في مرحلة دقيقة بين (2004 2006)، مع فارق أساسي هو الانهيار الاقتصادي المالي الذي استجد وصار عاملا مؤثرا في الحسابات وقواعد اللعبة.. فما كان من حملة آنذاك ضد الوصاية السورية عبر النظام الأمني المشترك، نجد له شبها في الأصوات المرتفعة الآن ضد «الاحتلال الإيراني» عبر حزب الله... وما كان من «لقاء البريستول» الذي شكل نواة جبهة المعارضة وسميت لاحقا «جبهة 14 آذار»، نجد ما يشبهه في «جبهة السوديكو» التي سميت «الجبهة السيادية». وانفجار السان جورج الذي أودى بحياة رئيس الحكومة وزعيم السنة الشهيد رفيق الحريري، وما كان بعده من تحقيق دولي وتوقيفات أمنية طال (الضباط الأربعة) واعتراضات سياسية على نظام المحكمة الدولية، وتحديدا من وزراء الثنائي الشيعي.. هذا المشهد يتكرر مع انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة المئات ودمر جزءا كبيرا من العاصمة، وما كان بعده من تحقيق محلي (المحقق العدلي طارق بيطار) وتوقيفات «إدارية» وادعاءات شملت وزراء سابقين وهم نواب حاليون، واعتراضات سياسية على مسار التحقيق بحجة ما يعتريه من «استنسابية واستهداف سياسي»، صدرت بشكل أساسي عن «الثنائي الشيعي»، ولكنها صدرت أيضا عن مرجعيات وقوى دينية وسياسية أخرى كدار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقون، وتيار «المردة».
وما حدث في نهايات العام 2006 يحدث مثله في نهايات 2021. آنذاك أعلن وزراء الشيعة انسحابهم من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ومقاطعتهم لجلساتها وأعمالها. ولكن الحكومة التي أصبحت على حد تعبير الرئيس نبيه بري «حكومة مبتورة» وفاقدة للشرعية الميثاقية، استمرت في عملها وفي عقد جلسات واتخاذ قرارات الى أن انفجر اللغم الأمني بها في «7 أيار 2008» على أثر قرار اتخذته وتناول نظام الاتصالات العائد لحزب الله.. وكان ما كان بعد ذلك من «اتفاق دوحة» ومسار انحدار لقوى 14 آذار مقابل مسار صعود لحزب الله.
ومنذ أسبوعين لجأ وزراء «أمل» وحزب الله الى إجراء مماثل ولكنه أخف وطأة، قضى بتعليق المشاركة في جلسات مجلس الوزراء اعتراضا على مسار التحقيق في انفجار المرفأ و«ضغطا» على الحكومة لاتخاذ موقف أو قرار يؤدي الى تنحية القاضي طارق البيطار وكف يده عن الملف، أو على الأقل الى وقف التحقيقات و«تصويب» مسارها. ولكن ما يختلف هذه المرة أن الرئيس نجيب ميقاتي قرر ألا يكمل مسيرته الحكومية من دون الوزراء الشيعة، وأن يعلق جلسات مجلس الوزراء طالما يعلق هؤلاء حضورهم للجلسات. وميقاتي ليس في موقع المواجهة الذي كان فيه السنيورة قبل 15 عاما، ولا يعتبر نفسه معنيا بهذه المواجهة، وهو الآتي الى رئاسة الحكومة على «حصان تسوية»، فيما كان السنيورة رأس حربة في مشروع مواجهة عنوانه المحكمة الدولية. وما يختلف أيضا هذه المرة الموقف الشيعي الذي يكتفي بتعليق حضوره لجلسات الحكومة ولا يذهب الى حد القطع معها أو السعي الى إسقاطها ونسفها.
حكومة السنيورة كانت «خصما وهدفا»، أما حكومة ميقاتي فإنها حكومة صديقة وحليفة، والثنائي الشيعي فيها شريك أساسي. ولذلك، فإن خطوة «أمل» وحزب الله، بمقاطعة جلسات الحكومة والتسبب بتوقفها، شكلت مفاجأة وقوبلت باستغراب، إذ كيف يقاطع حزب الله حكومة ساهم في صنعها وباركها وتحسب عليه، وكيف يلجأ الى ممارسة ضغوط على سلطة تنفيذية يرأسها رئيس حكومة صديق ورئيس جمهورية حليف، للبت في مسألة قضائية. ولأن الأمر ينطوي على خطأ في المقاربة والتصرف، فإن الثنائي الشيعي اتجه الى معالجته والحد من سلبياته بأن أوعز الى وزرائه المشاركة في كل الاجتماعات الوزارية برئاسة ميقاتي وبالحضور الى وزاراتهم ومتابعة أعمالهم بشكل طبيعي.
ولكن في النتيجة هناك مشكلة قائمة وتحتاج الى حل: الوزراء الشيعة لا يحضرون طالما لم يتم البت بموضوع المحقق العدلي. والرئيس ميقاتي لا يدعو الى جلسة لمجلس الوزراء إذا لم يضمن حضور الوزراء الشيعة، وإذا لم يضمن، حتى في حال الموافقة على الحضور، أن الجلسة لن تفجر الحكومة. والرئيس ميشال عون وبالتفاهم مع ميقاتي لا يجد إمكانية لتدخل السلطة السياسية في شأن قضائي ولعزل القاضي البيطار من قبل الحكومة. هذه المشكلة ليست مقفلة على الحلول ولا تدور في أفق مسدود... فلا الثنائي الشيعي في وارد إسقاط الحكومة، ولا الرئيس ميقاتي في وارد الاستقالة كما فعل الرئيس حسان دياب بعد انفجار المرفأ والآن بسبب تداعيات التحقيق في الانفجار... في ظل هذا الوضع المأزوم اقتصاديا واجتماعيا والمهدد أمنيا والمتحين محطة الانتخابات، الأزمة لا تحتمل فراغا حكوميا، والمشكلة الطارئة لا تحتمل انتظارا، والحكومة لا يمكنها الاستمرار في وضع «لا معلق ولا مطلق»، وعمليا حكومة تصريف أعمال... حكومة معا للإنقاذ صارت بحاجة الى من ينقذها.