ينتجب القدر مشاعل تسهم في ديمومية النور بهذه الحياة العابسة في وجوه البسطاء، لتبقي هناك دوما مساحة ضئيلة من الأمل والتفاؤل للمتعثرين في خطواتهم من العابرين القادمين، ليمضوا في طريقهم وصولا إلى النهايات المفتوحة المحتومة. أولئك المنتجبون كثر على مر الزمن، ومن يمعن النظر قليلا في مسيرتهم يجد جل العزاء، وكل المواساة، ومن أولئك، علم تفرد في يومياته، لينسج منها عالمه الاستثنائي، ويدع للقادمين من بعده طرقا معبدة، ومشاعر صادقة مواسية في حزنهم وكربهم، ومشجعة لهم على تجاوز عثراتهم الشخصية، وإحباطات الحياة، وهو بين هذا وذاك، لم يهنأ بحياة فارهة، ولا عمر مديد، ولا مجتمع يقدر له عظم العطاء، وصدق التضحية، ونقاء الموهبة.
طرفة بن العبد، شاعر جاهلي، لم تمهله الحياة من أيامها الطويلة الكثير، حاصرته منذ ولادته، باليتم طفلا، وبأعمام لم يرقبوا في الله إلّا ولا ذمة، حرموه صغيرا من حقه في إرث والده، فأوجعهم في بيت خالد لايزال يجلدهم ومن على شاكلتهم بكلمات مؤنبة:
وظلم ذوي القربي اشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
عاش في كنف أخواله، فتوقدت ملكة الشعر على مهل، وسط بيئة يقرظ أهلها الشعر صباح مساء، فخاله المتلمس شاعر، وأخته الخرنق لها من «ديوان العرب» نصيب، لكن ذلك لم يكن عائقا أمام تكون شخصية فذة لم تعرف صحراء الجزيرة في العصر الجاهلي مثيلا لها، فنشأ موجعا إذا هجا، حكيما إذا أنشأ وارتجل
عن الفتى لا تسل وأبصر قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتد
وإن استوقفته يوما وهو يجوب بطحاء الظمأ وشعاب الغدر، لتسأله عن حاله يجيبك مطرقا
خليلي لا والله ما القلب سالم
وإن بدت مني شمائل صاح
وإلا فما بالي ولم أشهد الوغى
أبيت كأني مثقل بجراحي
وعن رؤيته للحياة يقول:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى
بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غدطرفة ابن الصحراء بطهرها وسكونها، قست عليه طفلا، بفقرها ويتمها وغلظة عيشها، فرفض الوفاء لها شابا، أبى رعي الإبل، واتخذ إلى رغد الحياة كل السبل، شعرا وتنقلا، ومن يلقي باللوم، يجد الرد حاضرا «هل أنت مخلد؟!»، حاضر البديهة والرد، ومن يجعل الوهن في شعره، بلا سبك ولا حبك، أو يلحن في القول، يجعل منه مضربا للأمثال، كهجائه لمستشعر بكلمة أصبحت مثلا «استنوق الجمل».
ولعل من المفارقات الموجعة في حياة الشاب الذي لم يتجاوز عمره الـ 26 عاما فقط، أنه ذهب إلى حتفه بيده - نقلا عن الرواة - حمل رسالة ملك الحيرة عمرو بن هند إلى والي البحرين المكعبر لينفذ فيه أمر القتل، الأنفة والكبرياء الكامن في شخصيته أبتا عليه أن يفتح رسالة ابن هند، وغيره فعل ونجا، ولعلك ترجو أن تأخذ بيده قائلا: ويحك أطل البقاء قليلا.. ولعله يجيب: ليس في العمر متسع!
[email protected]