في تاريخ كل أمة رجال يحملون على عاتقهم همومها وأحلامها، زهدوا في زينتها واستخلصوا أنفسهم من حبائلها رغبة في خدمة أوطانهم ومسؤولية تحملوها طوعا ليكونوا شموعا تحترق حبا في هذا الوطن لكي تضئ لغيرهم سبل الهداية والرشاد وقليل ما هم.
ونحن في ظلال الذكرى السنوية الـ ٥٩ للدستور الكويتي الحالي لا نستطيع أن نتغافل عن حدث ليس مهما فقط ولكنه الحدث الأبرز في تاريخ وطننا الحبيب والذي جاء بعد عام من الاستقلال عن الحماية البريطانية والتي تم إبرامها 23 يناير 1899 واستبدالها بمعاهدة الصداقة والتعاون وهو الإنجاز الذي تحقق على يد المغفور له بإذن الله تعالى الوالد المؤسس للكويت الدستورية المستقلة صاحب السمو الشيخ عبدالله السالم الصباح، رائد النهضة الكويتية الحديثة في كافة المجالات وواحد من أبرز القادة على المستوى الدولي في القرن العشرين الذي يمكن اعتبار سموه هو النموذج الأمثل للقائد الزاهد المتفاني في حب وطنه لرفعة شأنه بين الأمم.
ولد سمو الشيخ عبدالله السالم، رحمه الله، عام ١٨٩٥، وفي عهد المغفور له سمو الشيخ أحمد الجابر، بدأ سمو الشيخ عبدالله السالم العمل العام حيث تقلد العديد من المناصب الإدارية والمالية منذ عام ١٩٢١ حتى عام ١٩٥٠ وهو العام الذي تولى فيه مسند الإمارة ليصبح الحاكم الحادي عشر لإمارة الكويت، حيث شهد عهده تدفق العوائد النفطية والتي مكنته من تحقيق حلمه بنهضة شاملة إلى حقيقة على أرض الواقع، ولكن هذا لن يكتمل إلا بالاستقلال التام للكويت والذي بدأ بمراحل تمهيدية عام ١٩٥٩ بإصدار قانون الجنسية وجوازات السفر وقانون النقد وتنظيم الدوائر الحكومية، ومع مفاوضات بين سمو الشيخ عبدالله السالم والمندوب السامي البريطاني في الخليج العربي ويليام لوسي تم الاتفاق بين الطرفين على استقلال الكويت والذي تم في ١٩ يونيو ١٩٦١، وهى الخطوة الأولى للانطلاق نحو دولة ديموقراطية حديثة تكون ثمرة لكفاح الآباء والأجداد، وفي ٢٦ أغسطس من العام نفسه تم إصدار مرسوم أميري بالدعوة لإجراء انتخابات عامة لاختيار المجلس التأسيسي لوضع الدستور الكويتي والمكون من ٢٠ عضوا منتخبا، بالإضافة إلى ١١ وزيرا تم اختيارهم في التشكيل الوزاري الأول.
وعلى مدار العام وبالتحديد 11 نوفمبر 1962 تم اعتماد الدستور الكويتي المكون من ١٨٣ مادة محكمة تنظم الحقوق والواجبات، حيث رسخ مفهوم الدولة ونظام الحكم بسلطاته الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، المكونات الأساسية للمجتمع الكويتي، الحقوق والواجبات العامة، الأحكام العامة والانتقالية، وقد كفلت مواد الدستور الكويتي المبادئ العامة للعدل والحرية والمساواة والأمن وتكافؤ الفرص والحفاظ على كيان الأسرة ورعاية الشباب وحمايته وإصلاح النشء، وكذلك الرعاية الصحية والتعليمية وصيانة الملكيات العامة والخاصة، وحرية الاعتقاد والرأي والنشر، والاهتمام بالعلوم والفنون والآداب، والكثير من المواد التي جعلت من الدستور الكويتي هو الأبرز والأكثر تماسكا، وجعلت من الكويت نموذجا ديموقراطيا لا مثيل له في الدول العربية والإسلامية.
والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى منّ علينا بنعم عديدة ولكن تبقى أهم هذه النعم وأكثرها تأثيرا في حياتنا هي نعمة القادة من آبائنا وأجدادنا الذين تركوا لنا إرثا عظيما نفخر به، وكان حقا علينا أن نكتب في هذه الذكرى الطيبة لعل وعسى أن تحيي كلماتنا ضميرا مات تحت وطأة الفساد والمصالح الشخصية الضيقة، ولكي نتذكر أنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وأن اليأس من الإصلاح خيانة لتاريخ مشرف نريد أن نحافظ عليه وخاصة أننا في هذا الشهر نوفمبر من كل عام هو ذكرى تأسيس الدستور وأيضا في نفس الشهر ذكرى رحيل الوالد المؤسس للكويت الدستورية سمو الشيخ عبدالله السالم رحمه الله في (٢٤ نوفمبر ١٩٦٥)، وكأنها رسالة من الوالد لأبنائه بالحفاظ على هذه المكتسبات العظيمة وهي الكرامة لكل شريف نبيل على هذه الأرض الطيبة.