ثمة أحداث وحروب في العالم تكون بمنزلة محطة مفصلية ونقطة تحول حاسمة، وتؤدي إلى تغيير جذري في المسار الدولي ومجرى التاريخ.
فقبل عشرين عاما شهدنا مثل هذا النوع من الأحداث عندما تعرضت الولايات المتحدة لهجمات 11 سبتمبر عام 2001 وتلا ذلك تحول جذري في السياسة الخارجية الأميركية، لتصبح سياسة هجومية ويحصل غزو عسكري لأفغانستان وبعدها للعراق، وليرزح العالم لعقدين تحت ارتدادات ووطأة هذا الغزو المزدوج، قبل أن تتلاشى هذه المرحلة في الأمس القريب مع انسحاب أميركا من أفغانستان في اغسطس الماضي، كمقدمة لانسحابها لاحقا من العراق وسورية بعد الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران.. وهذا كان المسار قبل حرب أوكرانيا التي اندلعت في 24 فبراير الماضي، ولكن بعدها يتغير كل شيء.
وإذا كانت هجمات 11 سبتمبر والغزو الأميركي لأفغانستان والعراق رسما قواعد جديدة لصراع النفوذ ولنظام أمني جديد في العالم لمدة عشرين عاما، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا سيرسم - ولسنوات قادمة - قواعد جديدة للصراع الدولي ولحرب باردة جديدة انطلاقا من أوروبا.
فهذه الحرب «حرب اوكرانيا»، تدمر أوكرانيا وتطيح باستقرار أوروبا القلقة والمذعورة، وترد الروح والاعتبار إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي كان في حال موت سريري، ويبعث من جديد. ففي غضون فترة وجيزة لا تتعدى الأسبوعين، ألقى الغزو الروسي بتبعاته على مجمل النظام العالمي، وأعاد خلط أوراق جيوسياسية، ووضع موسكو في وضع «المنبوذ والمعزول» دوليا، كما وحد الغرب في مواجهة الرئيس الروسي وأيقظ التهديد النووي من سباته.
يعتبر الأوروبيون أن بوتين وجه ضربة موجعة وقاضية للسلام والاستقرار في أوروبا، وأن عليهم أن يتعايشوا مع وضع جديد وأن يعدوا أنفسهم وخططهم لحرب طويلة ستحفر عميقا في وجدانهم وواقعهم، لأن بوتين ليس في وارد التراجع. والأسوأ هو الآتي مع اشتداد العمليات الحربية على الأرض وعبثية المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا التي لن توقف حربها إلا بعدما تحقق أهدافها. فلا الوعود ولا التهديدات نجحت في ثني بوتين عن غزو أوكرانيا وتحقيق الأهداف التي حددها بوضوح، وهي: تدمير الجيش الأوكراني وإزاحة حكومة زيلنسكي «النازية» ونزع سلاح أوكرانيا وفرض الحياد عليها ومنعها من الانضمام إلى الحلف الأطلسي.
بوتين أيقظ عند الأوروبيين هاجس حرب عالمية ثالثة كانت لتقع لولا الخشية من تحولها إلى حرب نووية مدمرة، وذكرهم بأدولف هتلر والغزو الألماني لپولندا الذي كان شرارة الحرب العالمية الثانية.
الأوروبيون - مثل الروس- يخوضون معركة حياة أو موت، وأوكرانيا تشكل خط الدفاع الأول عن أوروبا في هذه المعركة، ولأن الوضع على هذه الدرجة من التعقيدات والخطورة، استيقظت أوروبا من سباتها ومعها حلف الأطلسي، إذ إن أمورا كثيرة تحدث للمرة الأولى في تاريخ القارة العجوز:
٭ للمرة الأولى تتخذ ألمانيا إجراءات غير مألوفة وتسلك تحولا دراميا في سياستها الخارجية والدفاعية: من حلال تزويد أوكرانيا بالأسلحة المضادة للدبابات وصواريخ أرض-جو، كما خرقت برلين مبدأ نقل الأسلحة إلى مناطق النزاع الساخنة ما لم يكن هناك حليف لحلف «الناتو» يتعرض للهجوم، وتخصص ميزانية ضخمة بمئة مليار يورو لبناء جيش ألماني قوي.
٭ للمرة الأولى تخصص دول الاتحاد الأوروبي نصف مليار يورو لتوفير أسلحة إلى أوكرانيا، في أول إجراء أوروبي من نوعه لدعم عسكري خلال نزاع، تسبب في أول عملية لجوء ونزوح داخل أوروبا التي اعتادت على استقبال لاجئين من دول العالم الثالث.
٭ للمرة الأولى تتخلى دول محايدة مثل سويسرا وفنلندا عن حيادها وتدعم كييف بالسلاح أو بالتضييق الاقتصادي على روسيا.
٭ للمرة الأولى أيضا، يقوم حلف «الناتو» بنشر عناصر من قوة الرد التابعة له بهدف تعزيز قدراته الدفاعية والاستعداد للرد سريعا على أي تطور، ولتجنب أي توسع للنزاع إلى أراضي الحلف في اتجاه بلدان البلطيق المحاذية أو البلقان. ويواجه حلف شمال الاطلسي، وأعضائه الثلاثين، اختبارا غير مسبوق، مع دعمه أوكرانيا ضد الاعتداء الروسي والحرص في الوقت نفسه على عدم الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع موسكو.
تقف أوروبا أمام لحظة حاسمة في تاريخها وخط فاصل زمنيا واستراتيجيا بين مرحلتين، فحرب أوكرانيا ستكون لها تبعات عميقة على حياة الأوروبيين ونتائج جيوسياسية على القارة الأوروبية التي تقرع طبول الحرب مجددا عند أبوابها، وينبغي عليها أن تصبح قوية وتحمي نفسها بنفسها، وأن تراجع سياساتها وتحدث تغييرا جذريا في اتجاه إعادة بناء نظام أمني وسياسي واقتصادي أوروبي جديد.