أحد أقارب صديقي، تعرض لمشاكل عائلية معقدة في مرحلة مراهقته، أثرت على نفسيته بشكل كبير، ظهرت عليه بوادر الأمراض النفسية، فبدأ بالكلام بصوت عال مع نفسه، وغالبا تصنف هذه الأمراض في مجتمعنا، بأنها مس من الجن، وفعلا كان هذا حكم المجتمع المحيط فيه، وأصبح الحكم الاجتماعي على قريب صديقي هذا بأنه «مسكون» من الجن، بعد بعض سنوات انتهت مشاكله الاجتماعية، لكن مازالت هذه الصفة مرتبطة به، لدرجة أنه هو نفسه أعجبه الوضع، فأصبح كلما تعرض لضغوط عادية، يبدأ بالتمثيل بأنه ممسوس ليتهرب من الواجبات الاجتماعية، كبر وتخرج وتوظف بأحسن الأماكن وأصبح بحالة نفسية ممتازة، ومازال هو والمحيطين فيه مقتنعين بأنه ممسوس.
ليس صديقي المهم في الموضوع، ولا حتى قريبه، المهم هم نظرية الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، والذي يعتبر من كبار المنظرين لما بعد الحداثة، وله نظرية تتحدث عن المحاكاة والصورة، ومصطلح المحاكاة يعني صنع شيء غير واقعي شبيه بالواقع، ولشرحها بطريقة سهلة نطبق مثال قريب صديقي عليها، فهو إنسان سوي تعرض لمشاكل في وقت معين، كون الناس عنه (صورة) بأنه ممسوس، أعجب هو بهذه الصورة، وأصبح «يحاكيها»، والفيلسوف جان يقول بأن البشرية في الوقت الحالي تعيش كحال صاحبنا الممسوس.
المثال الأبرز الذي يعيشه أغلب الناس هو حالة وسائل التواصل الاجتماعي، فلو تسأل أي شخص عما يعرفه عن أي «فشينيستا» مشهورة، سيقول هي جميلة أو أن لديها بيتا فخما أو سيارة، كلها أمور مادية شكلية، لا علاقة لها بفكر أو جوهر الإنسان، فكل ما يشاهده المتابعون عبارة عن مقاطع قصيرة من حياتها، وطبعا مع الكثير من الميكياج و(الفلاتر والفوتوشوب)، تكون فيها على أجمل (صورة)، ولكن هذه الصورة، لا تمت للواقع بصلة، فيصبح الناس على «هوس» بالصورة المتخيلة عنها، ويرغب الكثير من المعجبات بـ «محاكاة» هذه الصورة، وتصبح هي ذاتها معجبة في الصورة تبدأ بمحاكاتها، حتى يصبح الكل يرغب بالعيش على طريقة الحياة المثالية (غير الواقعية) التي تعيشها، وتقوم هي بعمليات تجميل حتى تشبه نفسها في الصور، وتقوم المعجبات بذلك، ويرغب المعجبين بالارتباط بزوجات يشبهون الصورة غير الواقعية عن الفاشينيستا، ولأنها حياتها بمقاطع الفيديو جميلة، تبدأ بمحاولة أن تكون كل حياتها بهذا الجمال، ويبدأ المعجبون بتصنع حياة معجبتهم، ولأنه لا يمكن على أرض الواقع تطبيق حياة خالية من المشاكل، تحدث الانتكاسة النفسية، ويبدأ مشوار الألف إحباط بفشينيستا.