- السياحة المصرية تستعيد عافيتها بعد «كورونا» وتحظى بأجواء رائعة من الأمن والاستقرار وتوافر الخدمات اللازمة للسائح
- طيبة «الأقصر» كانت العاصمة الأهم في تاريخ الدولة الفرعونية وبلغت ذروتها بـ «طريق الكباش» العظيم مقابل وادي الملوك
- الأقصـر وأسوان وما بينهما.. بقع ملـهمة من العالم سـتدرك لماذا عشـقها كبار الفنانين والأدباء والسيـاسـيين
- حكايات مبهرة عن آمون وإيزيس وأوزوريس وحورس وحتحور وست وسوبيك وأنوبيس
- رمسيس الثاني «الباني الكبير» عاش 92 عاماً وأنجب 200 ولد وعزّز الهيبة العسكرية للدولة بعد «سيتي الأول»
الأقصر وأسوان - محمد بسام الحسيني
على الدوام كانت مصر بالنسبة للشرق والغرب ذلك المكان الساحر الذي احتضن لآلاف السنين أعظم حضارة إنسانية عرفها التاريخ على طول نهر النيل في البلاد.
لا تعتمد الحضارة المصرية على قصص متوارثة لوصف عظمتها، وإنما تشهد عليها أبنية شاهقة ومعابد وآثار تبهر وتحير العلماء حتى اليوم وتأسر الناظرين.
جمال وفرادة هذه الحضارة يكمنان في امتدادها الطويل وهويتها الموحدة والمستمرة لآلاف السنين، فقصص آمون وإيزيس وأوزوريس وابنهما «حورس» وزوجته «حتحور» وعمه الشرير «ست» الذي دعته والدته للثأر منه و«سوبيك» و«أنوبيس»، وغيرهم من رموز الديانة الفرعونية القديمة، ظلت حاضرة دون تغير على امتداد الأسر منذ المؤسس مينا (حوالي 3200 ق.م) وحتى الأسرة الـ 31 بعد أكثر من 3000 سنة.
للدلالة على أهمية الحضارة المصرية يمكن الحديث عن الإبهار الذي أحدثته لدى من زاروها من قدماء الإغريق وبينهم الرحالة والمؤرخ الشهير «هيرودت» الذي تنقل في العالم القديم وحدد عجائب الدنيا السبع القديمة كما نعرفها اليوم في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو صاحب مقولة «مصر هبة النيل».. إذا كنا اليوم ننبهر بما وصلنا من الإغريق والرومان منذ 2500 عام فلنا أن نتخيل كم أن هؤلاء بدورهم كانوا منبهرين بما رأوه من آثار الفراعنة الممتدة لألفي سنة سابقة لحضارتهم ومنهم قد استوحوا فنون العمارة والبناء والطب، وخاصة استخدام زهرتي اللوتس والبردي.
بدأت رحلتنا من الأقصر، لكن يمكن ان تبدأ من الشمال مع قصص الأهرامات والأسر الأولى منذ «مينا» موحّد القطرين و«زوسر» (الأسرة الثالثة) الذي بنى الهرم الأول في سقارة من تصميم المهندس والطبيب امحوتب وسنفرو (الأسرة الرابعة) فرعون الفرح والازدهار الذي بنى وشيّد أيضا أهراما معروفة في دهشور، وأهرامات خوفو وخفرع ومنقرع (أيضا الأسرة الرابعة) في الجيزة.. وبعدها الانتقال جنوبا نحو طيبة (الأقصر) العاصمة الأهم في تاريخ الدولة الفرعونية والتي بلغت ذروتها في عهد الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة حيث «طريق الكباش» العظيم بين معبدي «الأقصر» و«الكرنك» والممتدين على الضفة الشرقية مقابل «وادي الملوك».
يضاء الوادي ليلا في مشهد ساكن ومهيب محتضنا مقابر مومياوات الملوك وبينهم «توت عنخ آمون» ابن اخناتون «الفرعون المتمرد» الذي غيّر الديانة مسببا أكبر حالة غموض وغرابة في مسار تلك الحضارة، وتدور قصص كثيرة حوله وزوجته «نفرتيتي» ووالدته «تي» النافذة في عهده، إلى جانب القصص المثيرة حول ابنه ومقبرته ومصيره وكنوزه.
وعلى مسافة قريبة يقع معبد الفرعونة «حتشبسوت» (الأسرة الثامنة عشرة) ابنة تحتمس الأول وزوجة تحتمس الثاني والتي يعتقد أنها قتلت على يد رجال ابن زوجها تحتمس الثالث، صمم المعبد المهندس «سنموت» الذي يقال إنه ارتبط بعلاقة غرامية بالفرعونة الشهيرة.
هي واليونانية كليوباترا آخر الملكات التي اشتهرت أيضا بقصصها الغرامية مع قادة روما (في العهد البطلمي) أشهر امرأتين حكمتا البلاد خلال العصور المتعاقبة، وعهد «حتشبسوت» كان عهد رخاء وثراء تدل عليه روعة البناء في معبدها الذي عملت بعثة دولية على مدى عقود لإعادته إلى شكله الأول.
وفي كل مكان جنوبا يحضر تمثال «رمسيس الثاني» الفرعون الأهم في التاريخ والباني الكبير الذي عاش 92 سنة وأنجب نحو 200 ولد وعزز الهيبة العسكرية للدولة بعدما ورث الحكم من والده «سيتي الأول» (الأسرة التاسعة عشرة).
مع دخول البطالمة إلى مصر (305 ق.م ـ 30 م) ولاسترضاء الشعب لم يمسوا بموروثهم الفرعوني بل أضافوا عليه لمسات تتضح دلالاتها في زيارة معابد مثل «إدفو» و«كوم امبو».. و«فيلة» في أسوان، حيث تمتزج فنون الحضارات الثلاث ويمكن استحضار التطور الذي مرت فيه تلك الحضارة العريقة مع الإبقاء على ثوابتها مثل عناصر بناء المعابد المستوحاة جميعها كما المسلات والأهرامات من فكرة الإشعاع والشمس، فظلت الهندسة محفوظة ومتبعة بدقة، وما إن يفك السائح غموض القصص ويفك بعض الرموز الهيروغليفية حتى يقع في شغف منها حال الأجيال المتعاقبة على ضفاف النيل وكيف كانت علاقتهم بملوكهم وديانتهم وفلكلورهم وأرضهم وزراعتهم وتجارتهم وطبهم وهندستهم.
كثير من الأسرار الفرعونية المثيرة كُشفت وغيرها نشأت حولها النظريات كفن التحنيط الذي مازالت بعض مستحضراته ومراحله غير معروفة بدقة، وهناك أيضا نظريات معقدة حول استخدام مياه النيل في رفع الحجارة والبناء، وكل ذلك يقود إلى نقاشات في الفيزياء والكيمياء الحديثة للإجابة عن علوم ماضية، ولك أن تتخيل حجم الإثارة والإبداع في الموضوع.
الترفيه والاستجمام
هذا في الشق التاريخي، أما الرحلة في النيل بحد ذاتها، لاسيما عبر السفن، ففرصة للاستجمام والاستمتاع بالهدوء أكثر من أي مكان آخر وللتنعم برؤية الشروق والغروب والسماء الصافية والقمر بمواضع وألوان ساحرة للنفوس.
والموعد الأمثل لزيارة جنوب مصر هو بين أكتوبر وفبراير، حيث ان الزائر سيستمتع بأجمل طقس له أن يتخيله، ومع بلوغ أسوان ووسط تلال الرمال الذهبية يشاهد مياه النيل بنقاوة لم يرها من قبل وسط جزر نهرية تغطيها «السافانا» والنباتات الغريبة والطيور العجيبة وصولا إلى القرية النوبية التي تضج فرحا وموسيقى وفيها الأسواق التقليدية والمقاهي المطلة على النيل.
في الأقصر وأسوان فنادق عالمية المستوى بكل خدماتها مثل «الهيلتون» و«الوينتر بالاس» و«كتراكت» بمواقعها وحدائقها الغنّاء تجعل من الإقامة في كل منها تجربة خاصة ونادرة لا تفارق الذاكرة وبأسعار تنافسية مقارنة بنظيراتها في الأماكن السياحية المهمة الأخرى في العالم.
الأقصر وأسوان والمدن الممتدة بينهما هي محطات لا يمكن لأي سائح يعشق الطبيعة أو التاريخ ألا يزورها، هي بقعة ملهمة من العالم عندما تصلها ستعرف لماذا عشقها كبار الفنانين والأدباء والسياسيين من حول العالم ولماذا سُحروا بها.
الحضور السياحي العالمي من مختلف الجنسيات والأقطار يعكس استعادة السياحة المصرية لزخمها بعد أزمة «كورونا» وفي أجواء الأمن والاستقرار وكافة الخدمات اللازمة.
أرقام السياحة المسجلة في مصر قبل الجائحة كانت تقارب الـ 15 مليون سائح سنويا، وهي تبقى أرقاما أقل بكثير من الحصة المستحقة في ظل ما تملكه من مقومات استثنائية، لذا فإنه من المؤكد ان هذه الأرقام ستواصل ارتفاعها، ورغم ذلك لاحظنا بعض النواقص، ومنها على سبيل المثال فإنه خلال التنقل برا من أسوان إلى الأقصر ورغم جمالية المنظر على الاتجاهين حيث تمتد الأراضي الزراعية الخلابة والفائضة بالخيرات فإنك لا تجد طوال الطريق الذي يستغرق نحو 4 ساعات استراحة واحدة عصرية، كما ان عددا كبيرا من المحلات في الأسواق لا يوفر وسائل الدفع بالبطاقات، وهو ما يصعّب من عمليات التسوق، فضلا عن ضرورة تطوير شركات «التاكسي» والسيارات المستخدمة، فغالبيتها في «أسوان» قديمة جدا.
الكتابة عن زيارة مصر يمكن تناولها في كتاب كامل لنقل تجربة مختلفة عن أي بلد آخر، لأن ما تشاهده في مصر غير موجود في أي مكان ثانٍ.
برنامج الزيارة كان من تنظيم فريق «باب للرحلات» الثقافية كمحطة سنوية في جدولهم وضمن رحلاتهم حول العالم والتي سبق ان شاركنا في العديد منها وبينها رحلة «نجيب محفوظ» وحياته في القاهرة قبل سنوات.
كل الشكر للقائمين على الفريق على عنايتهم وتنظيمهم وخبرتهم التي جعلت من الرحلة أثرى وأشمل وأسهل، والانتقال إلى «الأقصر» كان مباشرة من الكويت عبر طيران «الجزيرة».
لمصر سحرها وجوّها الخاص، وتتميز بسهولة التعامل والاندماج مع شعبها الطيب والنبيل والمثقف في كل مكان تزوره فيها.. والأقصر وأسوان أقرب مكان للغوص في التاريخ.. والاستمتاع بالطبيعة.