لم يعد الصراع بين الرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة خفيا، وإنما خرج الى العلن وسرعت الانتخابات في حصوله وانفجاره. وهو ليس صراعا انتخابيا على مقاعد وكتلة، وإنما صراع سياسي على خيارات واتجاهات مستقبلية، يبدأ من صراع على القرار السني والقيادة السياسية. فما يعتبره الحريري مجرد «تعليق مشاركة» في الانتخابات والحياة السياسية بانتظار ظروف العودة المؤاتية، يرى فيه السنيورة أمرا خطيرا ستكون له تداعيات متدحرجة على التوازنات السياسية اللبنانية لسنوات مقبلة، ويعمق في اختلال هذه التوازنات المختلة أصلا منذ سنوات، إضافة الى أنه يدفع الساحة السنية باتجاه المقاطعة ويشرع أبوابها أمام اختراقات حزب الله وأمام جهات طارئة وهامشية في الطائفة، والنتيجة، دخول الطائفة السنية في الفراغ والانكفاء والضعف.
ربما يكون الحريري وقع في «الخطأ الثالث» عندما قرر نقل الأزمة الى داخل الطائفة السنية وفتح مواجهة مع السنيورة والمشاغبة عليه وإفساد خطته. هذا ما تتناقله أوساط سنية وسط خشية من أن يؤدي هذا الصراع الخفي المستجد الى تعميق الأزمة الداخلية، والى تغليب خيار المقاطعة السنية على نطاق واسع.
أما الخطأ الأول الذي وقع فيه الحريري، فهو عندما قرر عدم الاكتفاء بالعزوف شخصيا عن الترشح وإنما وضع تيار المستقبل -قيادات وقواعد- خارج الانتخابات والمعادلة الشعبية والسياسية. وكان بذلك يقفل «بيت المستقبل» ويضع المفتاح في جيبه، ويريد أن يقطع الطريق على أي محاولة لوراثة تياره ولاستمالة جمهوره، إضافة الى توجيه رسالة الى الداخل والخارج بأنه الأقوى ومن يمثل الشارع السني، ولا من أحد يمكنه أن يحل محله ويملأ فراغه، وأنه الآمر الناهي في ساحته، سواء كان في الحكم أو خارجه.
أما الخطأ الثاني، للحريري، فكان خطأ في التقدير والحساب. فعندما دعا الحريري الى المقاطعة الشاملة ترشحا واقتراعا، كان يحسب أن هذه المقاطعة لن تنحصر في تيار المستقبل وإنما ستتعمم على مستوى الطائفة السنية، وكان الأمر سيؤدي الى فقدان الانتخابات لشرط الميثاقية مع غياب طائفة أساسية، ما سيؤدي الى تأجيل الانتخابات والتمديد للمجلس النيابي حكما، وبالتالي الحفاظ على كتلته النيابية وبقائه في المعادلة الى أن تتوافر ظروف عودته ورفع القيود عنه، ليستأنف مسيرته من حيث توقف، ولكن تقدير الحريري بأن «لا انتخابات من دون المستقبل» لم يصح، وحصلت عملية رفض لموقف المقاطعة والدعوة الى المشاركة في الانتخابات ترشيحا واقتراعا.. وقاد السنيورة هذا الموقف المضاد، وهو من كان العامل المرجح في إضفاء «الشرعية أو الميثاقية السنية» على الانتخابات، وهذا الأمر لم يتقبله الحريري وإنما تعامل معه بسلبية، ولم تنفع معه الإيضاحات والتبريرات التي قدمها السنيورة وتأكيده أن ما يفعله هو في نهاية المطاف لمصلحة السنة و«الحريرية» والرئيس سعد الحريري شخصيا.
وترى هذه الأوساط أن خروج الحريري من المشهد السياسي الانتخابي لم يكن انقلابا في وجه القوى السياسية بقدر ما ارتد على الطائفة السنية وأوضاعها الداخلية، وأدى الى مزيد من التآكل فيها، وإلى ارتباك في صفوف البيئة والجمهور وبين أصحاب الدور السياسي، وانعكس ذلك صعوبة كبيرة في تركيب اللوائح وصياغة التحالفات، مع تصاعد التصادم بين جماعة الحريري والسنيورة والدفع باتجاه تجريد الأخير من أي رافعة سنية. وهو ما انعكس سلبا أيضا على حركة السنيورة الذي يحاول القيام بدور المرجعية البديلة. وقد برز بوضوح رفض قيام السنيورة بهذا الدور في هجوم تيار المستقبل عليه وتصويره أنه بات خارج «الحريرية السياسية»، ما دفع بقيادات «مستقبلية» متعاطفة مع الأخير الى تذكير القاعدة بأن السنيورة «رفيق وصديق وفي للرئيس الراحل رفيق الحريري ولا يطرح نفسه زعيما بديلا عن سعد»، فضلا عن تزايد الحديث عن مقاطعة الانتخابات.
ووفقا لأوساط بيروتية، ثمة الكثير من العقبات الجوهرية تحول دون تحول مبادرة السنيورة الى رافعة للصوت السني المرتبك، فهو يعاني من شح في الأموال التي تحول دون إدارة معركة في 4 دوائر، هي: طرابلس الضنية المنية وعكار، بيروت الثانية، والبقاع الغربي راشيا، وصيدا- جزين، ولا يملك أيضا العديد المطلوب لإدارة ماكينة انتخابية على هذا النطاق، إلا أن المشكلة الأكثر تأثيرا هي غياب التفاعل الإيجابي من جانب جمهور تيار المستقبل الذي يعتبره مشروع وراثة للحريرية السياسية، والمواجهة التي يلقاها من الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، من خلال اتصالات يجريها مع كل المفاتيح الانتخابية في بيروت والشمال والبقاع لحثهم على مقاطعة مشروع السنيورة، فيما تم قطع الطريق أمامه في دائرة جزين- صيدا بعدما رفع الغطاء عن ترشيح يوسف النقيب ومحمد شمس الدين اللذين يعمل السنيورة على تسويقهما في صيدا.
ولا تبدو طريق السنيورة معبدة لاستيعاب فراغ الحريري، خصوصا وأن خطابه السياسي لا يجد الصدى المطلوب عند الأكثرية في تيار المستقبل التي تعتبر أن من ظلم الحريري هم من داخل البيت ولا ترى معركتها مع الخصوم، وهو أمر واجهه أيضا بهاء الحريري الذي يعاني تعثرا داخليا وخارجيا، ما أدى الى خروجه من دائرة الوراثة السياسية. ولهذا تشير كل التوقعات الى أن معركة استنهاض الشارع السني لن تنجح في غياب رافعة تيار المستقبل، وستكون المقاطعة هي الحصان الرابح في استحقاق سيكون حلفاء حزب الله السنة أكثر المستفيدين، كونهم لأول مرة سيخوضون مواجهة أكثر توازنا مع خصومهم بغياب تيار المستقبل.
المبادرة التي أطلقها السنيورة تبدو أقرب الى «مغامرة»، والتحدي أمامها يكمن في القدرة على إعادة استنفار الجمهور السني كي ينزل الى حلبة الاقتراع بكثافة نتيجة لعدم جواز إخلاء الساحة. وهذه القدرة على استنفار الحريريين والناخبين ستظهر عبر تشكيل اللائحة في بيروت، لينسحب الأمر على دوائر أخرى طبقا لطريقة إدارة المعركة... ولكن أنصار الحريري واثقون من وضعه ويقولون إن التطورات على الأرض تؤكد أن سعد الحريري مازال الأقوى في الشارع، وهناك تعاطف كبير معه، وأن رموز العائلات السنية البيروتية والصيداوية أبلغوا بهاء الحريري وفؤاد السنيورة التزامهم قرار الحريري بمقاطعة الانتخابات. وما يخشاه هؤلاء أن يتكرر سيناريو العام 1992، عندما حدث خلل في التوازن الداخلي وسقوط الميثاقية وتعميق الشرخ وولادة سلطة تشريعية بتراء بسبب مقاطعة المكون المسيحي، وأن يصيب السنة ما أصاب الموارنة في تلك الفترة، جراء إبعاد رمزهم الأبرز سعد الحريري عن المعادلة الداخلية ودفعه الى مغادرة البلد، وكان من المفترض أن يقابل هذا الإجراء برفض وطني شامل وألا يتكرر مشهد الـ92، لأن البلاد ستكون بعد الانتخابات النيابية- إذا حصلت- أمام أزمة كبيرة وولادة سلطة هشة بسبب المقاطعة السنية.