التطريس عملية معروفة عند العرب الأقدمين، وهو عبارة عن قيام الكاتب بمسح الكلام المكتوب على الرق، وإعادة استخدامه بالكتابة عليه، لسبب قلة الأشياء الممكن الكتابة عليها قديما، كانوا بمجرد أن يجدوا نصا ضعفت قيمته لديهم، يقومون بإعادة تدوير الشيء المكتوب عليه، واستخدامه في نفس السياق أو حتى سياق مختلف، والورقة التي يعاد الكتابة عليها تسمى «الطرس»، لكن مهما اعتقد الكاتب أو الناسخ بأنه نجح في مسح النص الأصلي، يظل موجودا لأن غالب المواد المستخدمة يصعب مسح ما كان مكتوبا عليها، وبالأجهزة الحديثة ممكن جدا الوصول لما كان مكتوبا عليها في السابق.
ذاكرة المجتمعات أشبه للطروس منها للأوراق الجديدة، فمهما اعتقد المجتمع أنه تجاوز أو نسي الأحداث التي مر عليها بالسابق إلا أنها تظل عالقة في العقل الجمعي لنفس المجتمع، وتظل تظهر على سلوك المجتمع بين فترة وأخرى، بعض المجتمعات تتهرب من مواجهتها فتقوم بنكران وجودها وتتغافل عنها، والمجتمعات الواعية لتأثيرها الخطير، تقوم بعمل مراكز دراسات فيها متخصصين محليين أو عالميين لحل هذه المشاكل، وعلى سبيل المثال المجتمع الياباني الذي يقدس العمل ويتفانى في سبيله، أدى هذا إلى ظهور مرض (الكوروشي) وهو المرض أو الموت بسبب التعب من كثرة العمل أو حتى الانتحار، فسنت مراكز الدراسات بالتعاون مع السلطات قوانين تمنع من أن يقوم الموظف بالعمل أكثر من أوقات معينة، والشركة التي لا تلتزم، تدخل الشرطة لمكانها بأمر قضائي وتطفئ الإنارة وتغلقها يوميا وتتعرض لغرامات، إلى أن تلتزم.
وفي اليابان كذلك بعد حدوث كارثة طبيعية مثل الزلازل أو التسونامي، فتقوم مراكز الدراسات بدراسة الحدث وتتوقع مدى تأثيره على الذين تعرضوا له، وتقوم بحل مشاكلهم عن طريق قوانين وتشريعات أو نشرات توعية أو حتى عن طريق المصحات النفسية وخلافه.
نحن في الكويت تعرضنا عام 1990 لغزو، وهذا له أثر نفسي خطير على من عاصروه وأغلبهم أحياء، ولم تتم دراسة الآثار النفسية المترتبة على هذا الحدث، انعكس ذلك على الإنسان وأصبح العنف شيئا عاديا، وكلما حدث عنف في المجتمع، نقول بأنه حدث فردي لا يمثل إلا القائمين بهذا الفعل، وبعدها أتت كورونا والخوف الذي صاحبها، ومررنا بحظر طويل قد يكون الأطول بالعالم أو من أطول الفترات التي مرت على البشر ونحن معزولون، فزادت الجرائم وانتشر العنف، ولم نقم كذلك بدراسة الحالة، حتى أننا لم ننشئ مركز دراسات مؤهلا لدراسة هذه الحالات التي يمر بها المجتمع، حتى نعرف مدى تأثيرها علينا.
ومن الناحية الأخرى لا يجد الساكن في الكويت الأماكن التي تروح عن نفسه، حتى يخف الضغط عليه، فاختار الكويتيون حل السفر السياحي لحل هذه المشكلة، ولكن ليس كل الأفراد لديهم المقدرة المادية لذلك، فيكبت ولا يوجد متنفس لتفريغ هذا الكبت، ويزداد مع الوقت، حتى يصبح المكبوت خطرا على نفسه وعلى مجتمعه، النظرة بأن أماكن الترفيه هو ترف نظر لا شك في أنها خاطئة، بل هي من اسمها تدل على أنها ضرورة، فشرط من شروط الاتزان البشري أن يحظى بالترفيه، حتى لا تتراكم الضغوط، ومن غير وضع حلول لكل هذا، سيظل معدل الجريمة بارتفاع، وبسبب إهمالنا لهذه الأمور، وغيرها مثل التمايز بتطبيق القانون، أصبح لا يمر علينا أسبوع دون أن نسمع بجريمة شنعاء، بل وأحيانا ثلاث جرائم باليوم نفسه.