- قصيدة أمير الشعراء «مقادير» غزلية جميلة واسعة الانتشار لحنها وغنّاها موسيقار الأجيال وتناقلتها كل الإذاعات العربية وحفظها هواة الشعر ومحبو الطرب
- كيف روى الأصمعي خبر عمّه مع عجوز بديعة الشعر في سوق ضرية وحلاوة منطقها وفصاحة لهجتها!
- بدايات قصيدة الشاعر عبدالله بن الدمينة لاتزال تُغنى في الكويت على نغمة الصوت المعروفة في بلادنا من قبل المغنين
- العباس بن الأحنف أنشد لابن الدمينة أبياتاً ثم ترنح ساعة ترنح النشوان وطأطأ رأسه وقال: أنطح العمود برأسي!
- رقة شعر ابن الدمينة ونفسه الراضية وقلبه المحب.. قابلتها أعمال سيئة له جعلته ملاحقاً ومعرضاً للتأديب وقتل في حادثة ثأر
- عبدالله فضالة من قدماء المغنين الكويتيين أجاد وأبدع وغنى مقطوعة فيها أبيات لابن الدمينة انتشرت انتشاراً واسعاً
- الفنان الكويتي الشهير عوض دوخي غنى من تلحين الملحن أحمد الزنجباري أبياتاً لابن الدمينة ضمن أوائل الأغاني التي اشتهر بها
- روح الشعر عند الشعراء العرب واحدة قديمهم وحديثهم مما يعبر عن وحدة الأمة ورقي آدابها التي تنم عن صفات لا يخطؤها من يقرأ الأدب
هذه متابعة لحديث سابق مر بنا في هذا الموضع من جريدة «الأنباء» وتناولنا فيه تحت عنوان «مسامرات» بعض المختارات الشعرية، وقارنا بينها، وكان القصد من ذلك هو إلقاء الضوء على الشعر العربي في مرحلة من المراحل التي اجتازها منذ بدأ الشاعر العربي الأول في قوله.
وكان حديثنا ذاك عن شاعرين محدثين هما: صقر الشبيب من الكويت، والهادي آدم من السودان، ونخرج هنا عن هذه الدائرة فنقدم مختارات من نوع آخر، ومن عصر مختلف. وقد فتح لنا باب الوصول إلى هذه المختارات التي نذكرها اليوم كتاب مهم من كتب التراث العربي، ورثناه عن مؤلف من كبار العلماء في الشؤون الدينية واللغوية هو الشريف المرتضى: علي بن الحسين الموسوي العلوي.. وقد ضم كتابة هذا آماليه التي كان يتحف بها رواد مجلسه، وكانت هذه الآمالي متنوعة، تشتمل على تأويل بعض آيات القرآن الكريم، وعلى ذكر بعض آثار العرب الواردة في شعرهم ونثرهم.
يطلق على هذا الكتاب اسم: «أمالي المرتضى» كما يطلق عليه اسم آخر هو: «غرر الفوائد وذرر القلائد»، وهو مطبوع في طبعة فاخرة قام بتحقيقها الأستاذ المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الذي أنجز تحقيق عدد كبير من كتب التراث العربي. وكتاب المرتضى الذي ذكرناه من الكتب التي لا يستغني عنها محب القراءة، والراغب في الاطلاع على ما تحتوي عليه لغة العرب من درر اختارها المؤلف، وتحدث عن كل ما يتعلق بها، حتى عظمت الفائدة المرتجاة من كتابه، وفاض ذكره بين الناس.
ولقد لفت انتباهي وأنا أعيد قراءة الأمالي خبر أريد أن أتحف به غيري ممن قد لا يكون في إمكانهم الحصول على هذا الكتاب الثمين. أما سبب اهتمامي بتقديم هذا الخبر فهو ما فيه من طرافة، وجودة شعر، ودلالة على صورة من صور المجتمع العربي المسلم في وقت مضى.
ونحن ـ في البداية ـ لا بد أن نشير إلى أن هذا الخبر من مرويات راوية شهير من رواة اللغة والأدب في زمنه، هو عبدالملك بن قريب الأصمعي، وكان قد نقله عن عمه، ثم إننا إذا علمنا أن الأصمعي قد ولد في سنة 122هـ التي توافق سنة 740م، وتوفي في سنة 216هـ التي توافق سنة 831م، استطعنا أن نقترب من تحديد الوقت الذي جرى فيه الحادث الذي أورده الشريف المرتضي في كتابه:
ذكر في الجزء الأول ص466 حديث الأصمعي المشار إليه آنفا فقال، والحديث هنا للعم:
إني لفي سوق ضرية (قرية أو موقع في نجد)، وقد نزلت على رجل من بني كلاب، وقد أقبلت عجوز على ناقة لها، حسنة البزة (الهيئة)، فيها بقايا جمال، فأناخت وعقلت ناقتها، وأقبلت تتوكأ على محجن (وهو نوع من العصي)، فجلست قريبا منا، وقالت: هل من منشد؟ فقلت لصاحبي الكلابي: أيحضرك شيء؟ قال: لا، قال: فأنشدتها شعرا لبشير بن عبدالرحمن، يقول فيه
وقصيرة الأيام ود جليسها
لو باع مجلسها بفقد حميم
من مُحذيات أخي الهوى غصص الجوى
بدلال غانية ومُقلة ريم
صفراء من بقر الجواء كأنما
ترك الحياة بها رداع سقيم
ويبدو أن هذه الأبيات قد استثارتها، وأوقدت في نفسها الرغبة في المزيد، ولكنها لم تطلب ذلك، بل جلست على الأرض تضربها بالعصا التي كانت في يدها، ثم قالت:
قفي يا أميم القلب نقرأ تحية
ونشك الهوى ثم افعلي ما بدا لك
فلو قلت طأ في النار أعلم أنه
هوى لك، أو مُدنٍ لنا من وصالك
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها
هدى منك لي، أو ضلّة من ضلالك
سلي البانة العليا من الأجرع الذي
به البان: هل حييت أطلال دارك
وهل قمت في اطلالهن عشية
مقام سقيم القلب، واخترت ذلك
ليهنك إمساكي بكفّي على الحشا
ورقراق عيني، رهبة من زيالك
وهنا يقول الراوي (عم الأصمعي): فأظلمت والله عليّ الدنيا بحلاوة منطقها، وفصاحة لهجتها، فدنوت منها وقلت: نشدتك الله لما زودتني من هذا، فرأيت الضحك في عينيها، وأنشدت:
ومستخفيات ليس يخفين زرننا
يسحّبن أذيال الصبابة والشكل
جمعن الهوى حتى إذا ما ملكنه
نزعن وقد أكثرن فينا من القتل
مريضات رجع القول، خرس عن الخنا
تألفن أهواء القلوب بلا بذل
موارق من ختل المحب عواطف
بختل ذوي الألباب بالجد والهزل
يعنفني العذال فيهن والهوى
يحذرني من أن أطيع ذوي العدل
وتدلنا هذه المقطوعات الشعرية الثلاث، على مدى اهتمام المجتمع العربي القديم بالشعر، فهذه امرأة عجوز تسير على عكاز لها، تنيخ جملها أمام اثنين لا تعرفهما فلا تسألهما عن ضيافة ولا عن عون من أي نوع كان، بل تبادر إلى سؤالهما عن منشد ينشدها ما يحفظه من شعر. ثم إنها لا تحرم من ذلك، فتجد من يلقي عليها بعض الأبيات الجميلة المختارة، التي أثارت في نفسها نوازع الشعر، فتستهل منشدة لهما المقطوعة الثانية التي وردت في الحديث المذكور، واهتز الراوي لما سمعه منها فتوجه إليها راجيا أن تلقي عليهما المزيد، ولم تبخل بذلك، فألقت مقطوعتها الثانية التي هي ثالث المقطوعات التي سبق ذكرها. وانتهى الحديث بينهم دون أن يعلم الرجلان شيئا عن هذه المرأة من هي ومن أي جهة أقبلت؟
ونحن هنا نعود إلى إيضاح ما مر من شعر ابتداء من المقطوعة الأولى التي رواها عم الأصمعي، فنذكر أن بدايتها تشير إلى فتاة قصيرة الأيام، والشاعر يعني بذلك أن الأيام معها قصيرة فهي أيام سرور، وليس في أيام السرور طول. ثم يضيف قوله: لو باع أحد من محبيها مجلسها، وهو يريد: لو اشترى مجلسها بما عظم أمره لما استطاع، وأما قوله: مخذيات أخي الهوى، فمعناه: من معطيات من به هوى، ولفظ الحذية بمعناه هذا من ألفاظ اللهجة الكويتية، ثم يضيف أنها تعطي غصص الهوى لمن يهواها بدلال غانية وهي الفتاة التي استغنت بجمالها عن وسائل التجميل، وبعينها عن عين الريم (الغزال)، وهي صفراء كأنها من بقر الجواء وهذا موقع في عمان، وهي شديدة الحياء، حتى لكأن بها شيء من السّقم، ومن الونى لكثرة حيائها.
أما المقطوعة الثانية، وهي التي أنشدتها العجوز في الخبر الذي مر بنا، فهي جزء من قصيدة قالها الشاعر عبدالله بن الدمينة، وهي قصيدة مشهورة، أبياتها تختلف من مرجع إلى آخر طولا وقصرا، ولكنها متماثلة من حيث الروح المعبرة عن هذا الشاعر المجيد.
وسيأتي أن بدايات هذه القصيدة مما يغنى في الكويت على نغمة الصوت المعروفة منذ زمن في بلادنا، ولا تزال تغنى من قبل من هم بيننا الآن من المغنين.
لقد شاع بين الناس أن ابن الدمينة شاعر له مكانة في فنه، وتنويع في موضعات شعره، كما أن له شعر غزل رقيق، فهو يهتم كثيرا باختيار الألفاظ الرائقة السهلة التي تتماشى مع طبيعة الغزل. وهو يهتم ـ أيضا ـ بالتنقيب عن المعاني الدقيقة.
ولقد أحب هواة الأدب شعره وترنموا به، وكان شعراء عصره يعترفون له بهذا التميز، ويحفظون من شعره ما يتيسر لهم، وهو موضع حديثهم في كل مناسبة.
وقد يكون مما يهم المتتبع لمثل هذا النوع من الشعر أن نقرأ له بعض ما ورد عن هذه الأبيات في أحد المجالس القديمة التي يصل زمان انعقادها إلى العصر العباسي الذي بدأ في سنة 132هـ (750م).
فلقد روى أشهر ندماء ذلك العصر، وأقربهم إلى دار الخلافة، وهو اسحق بن إبراهيم الموصلي حديثا يؤكد ذلك حين قال:
كان العباس بن الأحنف (وهو من كبار شعراء الغزل) إذا سمع شيئا يستحسنه أطرفني به، وأنا أفعل مثل ذلك، فجاءني يوما فوقف بين الناس وأنشد لابن الدمينة أبياتا أولها:
ألا يا صبا نجد متى هجتِ من نجد
لقد زادني مسراك وجداً على وجدِ
ثم ترنح ساعة ترنح النشوان، ثم طأطأ رأسه وقال: أنطح العمود برأسي؟ كل ذلك فعله إعجابا بالأبيات التي قالها لنا.
وعلى الرغم من الرقة التي تجدها في شعر ابن الدمينة، وهي تدل على تعبيره عن نفس راضية، وقلب محب، فإننا نجده في موضع آخر غير معبر في سلوكه العام عن ذلك كله، وقد ورد عنه انه كان يخيف الطرق، وأن له أعمالا سيئة جعلته ملاحقا من الوالي، وأنه تعرض للضرب والإهانة جزاء ذلك، بل لقد كان ماله سيئا إذ تعرض للاغتيال، ومات مقتولا في حادثة ثأر ورد ذكرها في الكتب التي كان من بينها كتاب: «أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام»، لمحمد بن حبيب المتوفى سنة 245هـ. وكان اغتيال ابن الدمينة في سنة 180هـ، وفق ما رجحه الأستاذ أحمد راتب النفاخ الذي حقق ديوان هذا الشاعر وطبعه في سنة 1959.
نرى في الديوان المذكور نصا لهذه القصيدة التي روتها العجوز، بلغ أربعة وعشرين بيتا وقد اختار منها الفنان الذي أدى الغناء بضعة أبيات اختلطت مع أبيات أخرى ليست لابن الدمينة، ولكن غناء هذه المقطوعة انتشر انتشارا واسعا، وتعلق به هواة الغناء، وكان المغني هو الأستاذ عبدالله فضالة، وهو من قدماء المغنين الكويتيين، ولد في سنة 1900، ونشأ نشأة صعبة بسبب وفاة والديه وهو صغير. ومع ذلك فإنه سار في طريق الحياة كما أراد، محبا للفن، راغبا فيه، يسعى ـ دائما ـ إلى الإجادة والإبداع حتى صار بارزا في هذا المجال. وقد سجل أول أسطوانة له في الهند سنة 1931، ولم يكن ذلك التسجيل خاصا بأغنية واحدة، فقد سجل مجموعة من الأغاني في وقت واحد، وقد توفي في سنة 1967.
هذا ولابن الدمينة قصيدة أخرى مغناة في الكويت هي التي جاءت في الخبر الذي نقلناه عن اسحق الموصلي، فقد اختار منها فناننا مقطوعة من ستة أبيات يقول نصها:
ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى
على فنن غض النبات من الرند
بكيتَ كما يبكي الوليد ولم تكن
جزوعا وأبديتَ الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
يمل وإن النأي يشفي من الوجد
بكلّ تداوينا ولم يُشف مابنا
على ان قرب الدار خير من البعد
على ان قرب الدار ليس بنافع
اذا كان من تهواه ليس بذي ودّوهي من لطيف القول، وقد أجاد الملحق أحمد الزنجباري تلحينها وغناها الفنان الكويتي الشهير عوض دوخي ضمن أوائل الأغاني التي اشتهر بها هذا الفنان.
وبعد كل ما مضى ـ رغم الإطالة ـ فإننا نعود إلى ذكر المقطوعة الثالثة وهي ثاني مقطوعة أنشدتها العجوز، واستمع إليها الرجلان.
تصف الأبيات حسناوات مستخفيات بلباسهن لا يردن أن يعرفهن أحد من الناس لشدة خفرهن، ولكنهن غير خافيات على الشاعر فهو يعرفهن حق المعرفة، رآهن وقد جئن يسحبن أذيال الصبا، ويتهن خيلاء بشكلهن الحسن.
بلغن ما شئن من هوى، ثم تركن الشاعر حزينا فاقد الأمل، وكأنهم بذلك قد قتلنه.
كلامهن خافت رقيق، بعيد عن المرذول من القول، إنهن يملكن القلوب بأهون سبيل وأقربه، لا يخدعهن محب، بل هن اللاتي يخدعنه، ويخلبن الباب غيره في جذهن وهزلهن.
ويقول الشاعر:
إن العذال يكثرون تعنيفي لشدة ميلي إليهن، والهوى يحذرني من الانصياع لهم، ويوصيني بعدم طاعتهم.
ولما كنا قد انتقينا من شعر بعض الشعراء الماضين ما قدمناه وتحدثنا عنه، فإنه من المستحسن أن نردف ذلك بنموذج من نماذج شعر المحدثين من الشعراء. ونحن وقد أردنا ذلك، فإن من أهم من نلجأ إليه منهم لكي نختار من شعره هو أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 ـ 1932) لأنه علم من أعلام هذا الفن الراقي من فنون القول، وهو الذي اختاره شعراء عصره أميرا عليهم، وهو صاحب ديوان «الشوقيات» الذي حمل إلينا أنواعا من الشعر في شتى الموضوعات، وتجاوز به الأمور العامة وكل أغراض الشعر العربي، ليتجه إضافة إلى ذلك اتجاها آخر هو شعر المسرحيات فأنجز لنا: مجنون ليلى وكليوباترا وغيرهما في طبعات خاصة، وقد جرى تمثيل ما كتبه من ذلك على المسارح في مصر، وسار على منواله عدد آخر من الشعراء.
واهتم ـ إضافة إلى ذلك ـ بالأطفال فكتب لهم عددا كبيرا من المقطوعات التي تتناسب مع سنهم، وظروف دراستهم، وقد انتشرت أعماله هذه في المدارس في مصر وفي خارجها.
ومما نختاره هنا من شعر هذا الشاعر الفذ قصيدة من قصائده الغزلية الجميلة اخترناها مما ورد في الجزء الثاني من «الشوقيات» وهي التي يقول مطلعها:
مقادير من عينيك حوّلن حاليا
قَذُفتُ الهوى من بعد ما كنتُ خاليا
وهذه القصيدة من قصائده واسعة الانتشار، وخاصة بعد أن لحنها وغناها الفنان محمد عبدالوهاب، فتناقلتها كل الإذاعات العربية وحفظها هواة الشعر ومحبو الطرب. ولقد جرى لفظ «مقادير» على كل لسان حتى رأينا من كتاب الأغاني من اختاره ووضعه ضمن ما غناه له بعض المغنين.
اعتبر شوقي هذه المقادير التي تسببت بها عينا من يحب سهما مرسلا حل به، وسحرا قضى عليه لا نجاة له منه، ألبسه ثوب الضنى، وكدر حياته. ومع ذلك، فإنه لا يكره أن يلبس هذا الثوب، لأنه يرى أن الحب ما هو إلا طاعة للمحبوب، وإن أكثر العذال من وصفه بما ينفر منه، لأن الحب ـ في رأي شوقي ـ هو التقاء العين بالعين، ولا وصف أدق من ذلك،
فإن الشاعر يحس بأثر الهوى في قلبه، ويشعر بآلام الفراق، ويدخله كل السرور باللقاء، ولذا فإنه يقول: إذا سألني أحدهم: ما الحب؟ رددت عليه: الحب هو ما يعتريني الآن.
ويتابع الشاعر أبياته بعد المطلع المتقدم، فيصف ما به من لوعة الهوى، فيقول:
نفذن على اللب بالسهم مرسلا
وبالسحر مقضيا وبالسيف قاضيا
وألبستني ثوب الضنى فلبسته
فأحبب به ثوبا وان ضمّ باليا
وما الحب إلا طاعة وتجاوز
وإن اكثروا أوصافه والمعانيا
وما هو إلا العين بالعين تلتقى
وإن نزعوا اسبابه والدواعيا
وعندي الهوى، موصوفُهُ لا صفاته
إذا سألوني ما الهوى قلت: مابيا
ها نحن نراه ينطلق في القول معبرا عن مشاعره ذاكرا أن الذي به إنما هو ما يحسه من هذه الفتاة التي تشبه الرشأ (ابن الغزال) وقد كانت دنياه عندما استقرت معه، وهي حتى الآن دنياه بعد أن رحلت عنه لأن خيالها لا يزال معه يفكر فيها في غيبتها، ويتذكر أيام حضورها.
ثم يقول: إنني أبذل روحي رخيصة في سبيل هذا الرشأ الجميل، ومثلي في هذا مثل كل محب لا يؤثر على المحبوب أحدا آخر يكون أغلى منه.
إن الذي بي من الوجد، ومن آثار الاشتياق يفوق وقعه ما يقوله الوشاة عني وعنه، وتكفي شهادة دمعي على ما في قلبي منه.
ويُتبع ذلك بقوله عند الوداع:
لقد ودعتك والركب سائر بك إلى حيث تريد، وكنت آنذاك سائرا معك بفوادي الذي يتبعك إلى كل مكان تقصده. إنني أطلب منك ـ الآن ـ الأمان لقلبي مما ترسله جفونك إليّ، وكفى بالهوى كأسا وراحا وساقيا، فهو يذهب بالنفس، ويخرج المرء عن عاداته، وعن هدوء نفسه، وقد جاء هذا في قوله:
وبي رشا قد كان دنيايَ حاضرا
فغادرني اشتاق دنياي نائيا
سمحت بروحي في هواه رخيصة
ومن يهو لا يؤثر على الحب غاليا
ولم تجر ألفاظ الوشاة بريبة
كهذي التي يجري بها الدمع واشيا
أقول لمن ودّعت والركب سائر
برغم فؤادي سائر بفؤاديا
أمانا لقلبي من جفونك في الهوى
كفى بالهوى كاسا وراحا وساقيا
ها نحن قد قرأنا معا نماذج من الشعر العربي القديم الممتع، بما فيه من حلاوة لفظ وجودة معنى وعفاف يبعده عن الإسفاف، وقرأنا أخيرا نموذجا من الشعر العربي الحديث الذي مثلنا له بقصيدة: «مقادير» لأمير الشعراء أحمد شوقي، فوجدناها لا تقل عن سابقتها من حيث الجودة والرونق ورقة المعاني. وبذلك، يتبين لنا أن روح الشعر عند الشعراء العرب واحدة قديمهم وحديثهم في ذلك سواء، وهذا يعبر عن وحدة الأمة، ورقي آدابها التي تنم عن صفات لا يخطؤها من يقرأ هذه الآداب، وخاصة ما احتوت عليه من شعر.