فبين محتفل، «أهلا رمضان»، ومودّع «والله لسه بدري يا شهر الصيام»، خيط قصير كذلك الخيط الذي يفصل بين الخيط الأسود والخيط الأبيض من الفجر، ذلك هو شعورنا به، حينها، يتوارد إلى عقلي ذلك السؤال صافعا روحي بعنف يكاد يفجر الدماء من أوردتي، وتجلدني به نفسي إن شعرت مني التقصير، ويحرقني به لهيب الاشتياق الذي يشب في دواخلي نهاية تلك الزيارة المباركة في كل عام:
كيف حالك مع رمضان؟ كيف كان استعدادك قرب قدومه ثم استقبالك له وأخيرا أداؤك فيه؟!
ولطالما أقيّم نفسي بكلمة توضع بين قوسين يمينهما الحسرة ويسارهما الخزي (مقصر).
آه وآه يا رمضان كم تحمل في ثنايا أيامك المعدودة روحانيات لا ترتقي بها النفس الا في قيامك، ولا تستمتع بها الروح إلا في صيامك ولا نشعر بتلك البهجة الفريدة التي تتوغلنا كبارا وصغارا إلا في اقتراب قدومك.
آه وآه يا رمضان ألا تمهلت في رحيلك حتى تتجرع النفس منك ارتواء ويستطيب منك الجسد دواء، وتهدأ صرخات الشوق المدوية منك ارتشافا.
تتفرد وحدك بتلك القدرة الخارقة التي تنتشلنا من عجلة الدنيا المهرولة التي تدور بنا دون توقف فنتنفس الصعداء حينما ينير هلالك ظلام السماء، فنتوقف لنلتقط أنفاسنا ونلملم أشلاء أنفسنا المتناثرة فوق أسطح الأيام، فتهل علينا بركتك فتطبب جراحنا، وتجبر كسورنا، وترتقي بك أرواحنا محلقة إلى سماء الرحمة والغفران.
آه وآه يا رمضان ألا تمهلت، حتى يعود غائبنا ويشفى سقيمنا ونجتمع مع أقاربنا فنجلس معا نستمتع بعطرك الفواح وذكرك الرناح الذي يريح أنفسنا ويجلي عقولنا ويرتقي بأرواحنا إلى عنان السماء.
آه وآه يا رمضان ألا تمهلت حتى يستعيد العقل ذكراك وأيام الطفولة والشباب ونتشارك مع الأهل والأحباب، كم كنا بسطاء في زمان البركة، والحب والإخاء والطيبة العمياء، والطبق الدوار الذي يطوف حتى سابع جار، والزينة الرمضانية كانت تزين الشوارع كالعروس الملكية، وابتهال الفجر بصوت النقشبندي ونصر الدين طوبار وتفسير الشعراوي وترقب المدفع قبل الإفطار، آه يا رمضان يا صاحب البركة والبهجة والمتعة في كل الأزمان.
آه وآه يا رمضان ألا تمهلت حتى تزلزل الأرض مناجاة المصلين وتخترق السحاب متسابقة للوصول إلى سابع سماء فيباهي بها الله ملائكته كل ليلة قائلا سبحانه هؤلاء عبادي أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم.
آه وآه يا رمضان ألا تمهلت، حتى ينهي صيامك المبارك مداواة أبداننا وينقيها من سمومها وترتاح فيك أعضاؤها وتنقى فيك الأنفس من ذنوبها وتصل فيك أرواحنا إلى الصبر والتحمل والشعور بالفقراء وتتعلم فيك النفس العطاء؟
آه وآه يا رمضان ألا تمهلت، حتى نربي أنفسنا أن تسير عكس إرادتنا وتتعلم ماهية التحكم بنا، فلا تطيعنا كلما اشتهينا وتمنعنا عن كل ما يضرنا وتجاهدنا حتى نكون مسلمين حقا فمؤمنين فصابرين ثم نرتقي لمنزلة المحسنين الصالحين؟
أيها الكريم، ألا تمهلت؟ فمازالت النفس منك ظمأى، وروحي أراها محلقة، تناجي ربها حائرة تتساءل في خزي وحياء! ربّ …هل تُقبل عملي واستجيب دعائي وأحسنت صنعا في لقاء الضيف؟!
[email protected]