بقلم: سها مصطفى
صحافية - كاتبة سيناريو سورية
«يمسك هاشم بتلاليب فوزان ويلوح به في الهواء كورقة يرميه ويسحله بعنف في الساحة أمام أعين الجميع»، هذا المشهد سيصبح علامة فارقة دراميا في تاريخ الدراما السورية والعربية في افتتاحية الحلقة الثالثة من مسلسل «مع وقف التنفيذ»، المشهد جمع بين الثنائي القدير عباس النوري بشخصية فوزان الانتهازي والمبدع فادي صبيح مؤديا دور هاشم رجل العراضة، يبرز هنا بأدائه صبيح مجددا ويقف ندا أمام ممثل عريق مثل النوري بتاريخه الطويل في الدراما السورية، هنا نعود لقواعد الدراما السورية التي اعتدنا في مرحلة سابقة أن تكون البطولة جماعية وأن تقدم في كل مرة مفاجأة في الأداء لممثليها تجعل كل عام يحمل إضافة لما سبقه فنيا، العمل الذي تتصاعد أحداثه وتتعمق خطوطه الدرامية على عدة محاور يعد الأكثر اختمارا بين أعمال الثنائي -الكاتب- علي وجيه ويامن الحجلي، نص لا يشبه ما كتبه الثنائي سابقا لجهة تكرار بناء احد محاور القصة على عالم المخدرات وتبييض الأموال في الجمعيات الخيرية كما في «على صفيح ساخن» الذي أنتج العام الماضي، «مع وقف التنفيذ» نص درامي ينبش الأزمة السورية في حالتها الراهنة بالضبط في نص سوري بامتياز لم يكترث لموضة الاعمال المشتركة، ويشكل التعاون الثاني للكاتبين مع المخرج سيف سبيعي بعد نجاح على صفيح ساخن، المسلسل المغرق في محليته حجز مكانا له بين المسلسلات على فضائية الـ «ام بي سي»، ويجدد في تقنية الكتابة ومعالجة شخوصه ومواقفهم، أبرزها تناول شخصية عزام البدر وهو ضابط فقد أولاده في الازمة - يؤديه يامن الحجلي - عندما يقتل قناص ابنه وزوجته ويدفن طفله الثاني بالخطأ مع طفله الأول، شخصية البدر تذكرنا قليلا بحكاية «تاكسي درايفر» عن البطل المنسي من المجتمع في الفيلم الأميركي من بطولة روبرت دنيرو والذي يريد تطهير مدينته من الفساد، لكن شخصية البدر هنا تسير في مسارب ترمز في عمقها الى سلطة الغضب والمحاسبة ممن كان يمثل شكلا فاسدا من السلطة لكنه بات ضحية تحالفاتها الفاسدة نفسها للمفارقة، لكنه رغم ذلك لم يتخل عن حقه في المحاسبة متجولا في سيارته الصفراء العتيقة الإيرانية في شوارع دمشق وعوالمها السفلية هائما على وجهه ليلا، باحثا عن القناص الذي قتل عائلته في كل مكان، حكاية عزام وغيره من شخوص العمل هي من مفرزات الأزمة التي تقدم لنا في مطلع كل حلقة فلاش باك سريعا محكما لأهالي حارة العطارين قبل الخروج من الحي بسبب انعدام الامن وبعد عودتهم اليه ولبيوتهم الصغيرة، التي تمثل كعكة منتظرة من حيتان المال والفساد في مرحلة إعادة الاعمار والتطوير العقاري، ولا يخل هذا «التيزر» بسردية الحلقة أو بناء النص انما يفتح المجال لتعدد طرق السرد والسيناريو التي تكسر قواعدها دائما المسلسلات الغربية وبهذا تبني وتهدم من جديد في الشكل الدرامي وتجدد فيه.
وينثر في مطلع كل حلقة المخرج سيف سبيعي يوميات سورية بصوته يستعيد فيها التاريخ متناولا الحاضر بإسقاط رمزي عبر أقوال كتاب سوريين كالماغوط وخليل صويلح والبديري الحلاق وغيرهم، مع توالي الحلقات تضحي الأحداث أكثر عمقا بتشبيك وتفاعل بين شخوص العمل ومصالحهم وتقاطع أحلامهم التي هي ككل شيء هنا مع وقف التنفيذ بسبب الأزمة.
يبني النص قوته على مشاهده التي تستعير قليلا من السينما وتتكئ على التناقض الصارخ بين أبطاله، كشخصية جنان العالم -تؤديها سلاف فواخرجي- ابنة الشيخ الدمشقية الجميلة التي تنخرط في لعبة الفساد وتتزوج من أديب رجل سلطة صحراوي المناخ والمزاج يؤديه ببراعة فايز قزق بلهجة ديرية قحة، وهي نقطة مهمة يثيرها العمل رغم كل النقد الذي طاله على صفحات التواصل الاجتماعي، بخاصة بعد أن مللنا من تكريس اللهجة الساحلية دراميا من شخصيات تقبض على مفاصل السلطة بالجملة والمفرق في كل مكان، يتم تغيير الملمح الأخير الطائفي لصالح شكل أكثر واقعية لتشاركية السلطة التي عبر الزمن تاريخيا وفي كل مكان لا تعترف بطائفة وتؤمن بالمصالح فقط وهي إضافة تسجل للعمل، الذي يشارك نخبة من الممثلين السوريين في بطولته أبرزهم غسان مسعود العالمي بدور حليم العمود الفقري للحدوتة ويجسد شخصية سجين رأي سابق يخرج ليرى ضياع أبناءه بعد أن تركته زوجته بسبب الاعتقال، وتختلط حساباته ورغبته بالانتقام من الماضي بمستقبل ابنته التي يجهز عليها بطريقة تعكس تناقض وزيف المثقف العربي بين التنظير على الورق وبين رجعيته في الحياة الواقعية، أيضا من النجوم المشاركين زهير عبد الكريم وشكران مرتجى وصفاء سلطان وجلال شموط وحلا رجب، ويظهر النوري بكاركتر خاص لم يسبق له أن أداه خاصة أنه يؤدي دورا يختلف عنه وهو المعروف بكونه معارضا بعد كل ما أثارته تصريحاته في مقابلة مع إذاعة محلية من ضجة حتى تم حذفها، إلا أنه هنا يقدم شخصية رفيق حزبي انتهازي للصميم ولا يعف عن استعمال بناته لتحقيق مآربه، النص يعالج بحرفية وأمانة تحولات فوزان من موظف فقير مكسور الى لص وقاتل ببراعة معتادة من النوري الممثل والمخرج المليء بالتاريخ والتفرد، وبالعودة الى صبيح وسبيعي يمكن الثناء على اختيار لقطة في البرومو تشكل ذروة فكرة العمل وحكاية هروب عتاب الباري (صفاء سلطان) من منزل عائلتها قبل ارتكاب جريمة بحقها وعملها كفنانة لاحقا - تحت اسم درة- واكتشاف شقيقها هاشم ذلك وشعوره بالعار، وهو رجل العراضة الشامية بكل ارثها التقليدي المحافظ، هذه اللقطة تكثف الحدث بمشهد واحد لصبيح عندما يصرخ «الفنانة: درة!» وهو مخمور ومخدر من الألم بنبرة تحتقن بالغضب وتحتشد بالعجز، سيبقى بمنزلة وشم على المسلسل ويشهد لأداء عال من كل شخوص العمل المشغولة على مهل وبإتقان نصا وإخراجا في حكاية سورية مليئة بالوجع والمفاجآت، تسقط كل المقولات النقدية السخيفة التي لا ترى أن الواقع السوري يحتشد بالأزمات الفكرية والاقتصادية والأخلاقية وغيرها كما تقدم الدراما، وأن على الدراما أن تقدم حلولا!