- العيسى: الأجيال الجديدة تتعاطى الرطانة بصفتها لغة العصر بعد اقتلاعها من بيئتها الطبيعية
- العتابي: المكتبة رحلة عابرة للأزمنة التي يعيشها المنتمون لها والمتقاطعون معها وفيها تتجاور الرؤى والأفكار
- الفرحان: الحديث عن الهوية أصبح أعقد من أي مرحلة مضت بعد سنوات من الجائحة عشنا فيها هويات رقمية
- الكوني: إدمان الرحيل يعني احتراف التغيير والمهاجر ليس مخلوقاً شريداً بل فارساً شغوفاً مسكوناً بالفضول
آلاء خليفة
انطلق مساء الخميس ملتقى «تساؤلات الهوية» الذي تنظمه مكتبة «تكوين» على مسرح الجامعة الأمريكية بالتعاون مع المجلس البريطاني ومنصة الفن المعاصر وبرعاية اعلامية من «الأنباء» ويقدمه عامر أبوكبير، حيث يركز على تساؤلات من نحن؟ وما الذي يمكننا ان نكونه؟
افتتح الملتقى بكلمة ألقتها الروائية ومؤسسة مكتبة «تكوين» بثينة العيسى بعنوان «الهوية: سؤال الوضوح والالتباس»، قائلة: إنني إزاء الهوية أبدو ماضوية أحيانا، ومستقبلية أحيانا، وأنتسب إلى سلالة عالقة بالفخر والمهانة معا، أنوء بتاريخ من الخسائر وأكره أن يملي المنتصر على المغلوب هويته.
وأضافت العيسى: أتوق إلى الجذور بقدر ما تفتنني الأجنحة وأضيق بكل حديث عن الهوية يصب تلقائيا في الاحتراب والاغتراب، وأبحث عن طريق ثالث ولا أفهم كيف تحولت «الهوية» من لفظة نادرة في المتون العربية الصوفية والفلسفية، مثل رسائل الكندي ومؤلفات الحلاج والفارابي وإخوان الصفا وغيرهم إلى كلمة يومية إخبارية ومبتذلة تقريبا، ولماذا عندما نقرأ تعريف الهوية في القواميس الحديثة، بصفتها «حقيقة الشيء المميزة له عن غيره»، نشعر بالعبث والقصور؟ ربما لأن المعاني سياقية وليست قاموسية، ولأن الهوية مركبة ومتحولة ولا توجد في حالة نقاء ولأنها مذابة في كل شؤوننا، لأن كل علاقة بالآخر مسكونة بالتوتر، رغم كل ما ندعيه عن سقوط الأيديولوجيات والدخول في زمن السيولة واللايقين.
وتابعت: ولأن مفوضية شؤون اللاجئين رصدت ما يزيد على 70 مليون لاجئ ونازح حول العالم، أفارقة في فرنسا، أتراك في ألمانيا، سوريون في لبنان، فلسطينيون في كل مكان، لأن السياسيين يطالبون بإقامة الأسوار والجدران العازلة، ولأن البرلمانيين يشيطنون المقيم ويغازلون المواطن دون اعتبار لقيم النزاهة والإنتاجية، ولأن الأدباء يكتبون عن الاجتثاث والاغتراب، تشينوا أتشيبي ورضوى عاشور ومحمود درويش والطيب صالح وأرونداتي روي وتانيزاكي وجيمس بالدوين وغيرهم، لأن الأجيال الجديدة تتعاطى الرطانة بصفتها لغة العصر، بعد أن تم اقتلاعها من بيئتها الطبيعية وخصوصيتها الثقافية بزعم خلق مواطن عالمي، مواطن بقياسات موحدة وأذواق موحدة ولغة واحدة، يطالب بالتعددية دون أن يعرف ماهي، لأن معاركنا الموسمية السخيفة عن شجرة كريسماس، أو ممارسة اليوغا في صلبها قضية هوية، ولان مقاطع الفيديو تصبح رائجة إذا تحدثت عن لهجة صحيحة، مقابل لهجات دخيلة تخدش عفة الهوية الأصيلة، لان أطفال «البدون» مازالوا بلا تعليم لأن الهوية اعتباطية وابنة شرعية للصدفة.
واستطردت: مع هذا فهي تشتبك مع كل شيء مع الجغرافيا كعلاقة الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، مع الديموغرافيا في مقاربات مثل الوطنية والأجنبية، السكان الأصليين والغرباء، المقيمين والعابرين، مع البيولوجيا، في الرجل والمرأة، الأبيض والأسود، في سجالات الهوية الجنسية، مع الثقافة، في جدلية الحداثة والأصالة، في غيرة اللغات، وتبدل اللهجات، وصراع الأديان والحضارات.
وأوضحت انه مع اختزال تساؤلات الهوية بفضل «هوليوود» و«نتفلكس» ومنصات «تيد إكس» و«يوتيوب» و«انستغرام» إلى صراع الفرد مع محيطه، طغت الفردانية بشكلها الغربي، ليس بوصفها خيارا حرا بل تمظهرا لكل الأنانيات والدخول عميقا في البرودة الوجدانية راجت سرديات تبشر بمحاربة الأبوية فإذا بها تحارب الأبوة، سرديات تسوق للذاتية، فإذا بها راعية لكل النزعات المشجعة للتبجح والغرور الفارغ، وغياب الذوق، وشبق الاستهلاك، وثقة الحمقى بأنفسهم.. سرديات تبشر بحرية الإنسان فإذا بها تسعى لتسليعه، سرديات تبشر بإعلاء شأن الفرد الواحد الأحد، فإذا بها تسوق للانكفاء والحط من كل أشكال التضامنات الفطرية والتكافلات الإنسانية العفوية.
وبينت اننا استبدلنا وصية سقراط القديمة «اعرف نفسك» بعبارة أكثر راديكالية، «اخترع نفسك»، متبوعة بمتوالية من التوكيدات الإيجابية عن كونك تستطيع، عن كونك تستحق، وإنك واسطة العقد وحجر الزاوية وقطب الرحى، وإنك لن تحتاج أحدا، لا الأسرة، ولا الصديق، ولا الحبيب، ولا الوطن ولا الدين ولا التاريخ، وقد الغينا المحددات الجغرافية، اللغة، الإرث الثقافي، الجذور بصفتها لعنة وبركة، ومحوناها بقرار براغماتي سريع.
مأزق العصر الحديث
بدوره، ألقى مدير عام منشورات «تكوين» محمد العتابي كلمة بعنوان «مقاومة للنسيان.. دفاعا عن الذاكرة»، موضحا ان الهوية مأزق العصر الحديث، عصر التفكك والاندثار، عصر الوحدة والمنظومات الدولية، والعولمة في آن واحد، العولمة التي تعمل عبر خطابها ومؤسساتها على المحو والدهس، لتنتج تشرذما وتفككا بدعوى توحيد وترسيخ هويات جامعة.
وتابع العتابي: تشترك المكتبة والهوية في كونهما ذاكرة خالدة لنا ومن خلال المكتبة تحفظ الهويات وتزدهر، وتتلاقى مع بعضها بعضا لتشكل هويات جديدة ومختلفة، ومثلما يصعب أن نتخيل الهوية عنصرا ناجزا ونهائيا، كذلك هي المكتبة فهما تتشابكان بكونهما عملية حيوية وتفاعلية وتراكمية لا تنتهي بانتهاء أجل أو حدث ما، لافتا الى ان المكتبة رحلة عابرة للأزمنة ممتدة على طول الحيوات التي يعيشها المنتمون لها والمتقاطعون معها، في المكتبة تتجاور الأصوات والرؤى والأفكار والأذواق، وتتحاور كلها تحت سقف واحد، متسائلا كيف يمكن أن يكون للمكتبة صوتها الخاص في خضم الأصوات التي تحتضنها؟ وقد يكون مرد هذا الاستغراب فهم غير ناضج لمفهومي الانفتاح والتعدد، مشيرا الى إن التعدد والانفتاح يقتضيان وجود أصالة خاصة بنا، ننطلق منها لفهم الآخر، والالتقاء به أو الاختلاف معه وفق شروط الحوار العصري.
واردف: لمكتبتنا «تكوين» صوتها الخاص، وهو صوت عربي يعي أن التراث عنصر رئيس في نظام هويتنا وتشكيلنا، وزاد رحلتنا نحو المستقبل، وأن اللغة والموقف والقضية هي الذاكرة التي لا تنفصل عن الهوية أبدا، إننا نحاول من خلال فعالياتنا وملتقياتنا ومنشوراتنا التأكيد على موقفنا ضد التغريب، وضد الذوبان في الآخر، وأن التعددية والانفتاح مفاهيم لا تعني الانسلاخ والخضوع والرمادية والتواطؤ أبدا كما أن هذه المفاهيم التي نمارسها ونحرسها لن تكون في يوم خط دفاع عن جشع الخطاب الغربي الرأسمالي الأبيض الذي يسعى لتحويل العالم كله إلى سلعة من لون واحد على خط إنتاج بحجم الكوكب، سلعة تنتمي إلى منتوجات هويته الثقافية المرتكزة بالكامل على الاستهلاك والتشابه حد الاستنساخ في الأدب والمأكل والملبس والعمران والأنظمة والتعبيرات.
هويات رقمية
من جانبه، ذكر العميد المشارك لكلية العلوم والاداب بالجامعة الأمريكية د.عبدالرحمن الفرحان ان الحديث عن الهوية أصبح أعقد من أي مرحلة مضت بعد سنوات من الجائحة عشنا فيها هويات رقمية تسبح في الفضاء الإلكتروني، وبداية عصر أنسنة الرقميات والحديث عن الحياة في الواقع الافتراضي مما خلق العديد من التساؤلات والإشكاليات التي تتعلق في موضوع الهوية الفردية والجمعية.
واشار الفرحان الى ان اهتمام الجامعة الأمريكية برعاية مؤتمر «تساؤلات الهوية» ليس مجرد جزء من مسيرتها الكبيرة في رعاية الأنشطة الثقافية والأكاديمية في الكويت فقط، بل أيضا تبيان على صدارة الموضوع وأهمية حضوره في صفوف الإنسانيات في جامعة تفتخر بأنها المؤسسة الأكاديمية الأولى خليجيا تتبنى نموذج الآداب والفنون الحرة.
وذكر انه في صفوف السياسة والتاريخ نناقش سياقات تشكل القوميات في العالم والعوامل التي أدت إلى تحولات الهوية في المجتمعات العربية.
منازل الهوية
وألقى ضيف شرف الملتقى الروائي الليبي الطارقي ابراهيم الكوني كلمة بعنوان «منازل الهوية التسع» موضحا ان الهوية بمعانيها التسعة كائن مركب من حزمة هويات، هوية طبيعية بفضل صفقة العناصر الأربعة، وهوية وجودية لأنه كيان مسكون بذات وهوية إنسانية، لأن المنطق في لسانه حجة وهوية أخلاقية ولأن الحدس فيه سلطان ردع وهوية عرقية لأن الانتماء في تجربته هاجس لجوج وهوية ثقافية، ولأن العقل فيه قرون استشعار وهوية وطنية لأنه يهدهد في الوجدان مسقط رأس، وهو أيضا هوية روحية لأنه لم يحدث أن سمع لحنا شجيا إلا وانتابته شطحة وجد.
وبين الكوني ان إدمان الرحيل يعني احتراف التغيير ليس تغيير ما بالحرف ولكن تغيير ما بالنفس، فالمهاجر ليس مخلوقا متبطلا، ليس شريدا، لاسيما إذا كان وحيدا، ولكنه فارس شغوف، مسكون بجنين هو الفضول.
رحلة الهوية والجذور
من ناحيته، تحدث الصحافي والمؤلف وكاتب السيناريو والمذيع سرفراز منظور عن «رحلة الهوية» وكانت كلمته ملخصا لحكايته واسرته التي هاجرت من باكستان الى بريطانيا منذ 1964 للبحث عن حياة افضل، مشيرا الى نشأته وولادته في بريطانيا والصراع الذي كان يحدث بينه ووالدته في فترة مراهقته بين الجذور الباكستانية والهوية البريطانية الجديدة بل انه كردة فعل ثورية ذهب الى مستوى ابعد من الدخول في قلب الثقافة البريطانية سواء بالموسيقى او الملابس او المظهر، وهذا الامر كان يزعج والده ولا يحبه.
«لعبة المرايا وتعدد الهويات»
كان ختام اليوم الاول مع الشاعرة والاكاديمية إيمان مرسال التي تحدثت عن «لعبة المرايا وتعدد الهويات» موضحة ان العادة جرت في دراسات الهجرة والمنفى سواء الاجتماعية او النفسية على تناول الهوية، وكأنها منتج ثابت ومكتمل في ارض الوطن، حيث يأتي الانتقال المؤقت او النهائي وكأنه عنف مباغت يختبر الهوية الفردية ويهدد جوهرها.
وتساءلت، الى اي حد علينا ان نحمل الهويات التي ورثناها ونقبلها كما هي ونعرف بها انفسنا وندافع عنها؟، وهل الشتات تجربة بحث عن هوية؟ أليست كذلك رفضا للهوية الملصقة بنا في مكان الولادة او للهويات المتعددة المفروضة علينا في مكان الضيافة؟ كيف نتعامل مع مصيدة الهوية عندما يفرضها علينا وضعنا التاريخي، وما اشكال التفاوض التي يقوم بها الافراد والجماعات في مواجهة عبء الهويات المنجزة والمفروضة عليهم؟
وسلطت مرسال الضوء على كتاب «الضوء الازرق» للكاتب حسين البرغوثي، موضحة ان مؤلفه لم يقبل ما ورثه من هوية مكتملة ومنجزة، مؤكدة ان الجنون انساه كيف يشعر صاحب بيت فقده كما يجعله غير قادر على احترام ميثاق الضيافة او على تثبيت ملامح هويته امام الهوية الأمريكية المختلفة التي تستضيفه، فالهوية عند البرغوثي ميراث ثقيل والشيء الذي لا يستطيع الآخرون تعريفنا بدونه ولكنها ايضا اسماء وصفات ولغة توصف بها حتى لو لم نكن قد شاركنا في انتاجها، فالهوية ليست جوهرا ثابتا بل تضم كل ما هو هامشي وغير متفق على اهميته والهوية، لافتة الى ان كل هوية صلدة هي موضوع للسخرية والعبث عن البرغوثي وفي طموحه لسرد ذلك لا يكتفي بوصف الجنون وقتل الوقت والتداعي اللغوي والحفر في الذاكرة بل يقوم بذلك عبر فوضى من الاجناس الادبية.
السفيرة البريطانية: تم بيع أكثر من 200 مليون كتاب خلال 2020
قالت السفيرة البريطانية بليندا لويس خلال مشاركتها في الملتقى: كنا لا نستطيع الالتقاء بهذا الشكل خلال العامين الماضيين، حيث فقدنا تلك اللقاءات بسبب الإغلاقات المصاحبة لفيروس كورونا، ولكني لاحظت شيئا واحدا إيجابيا في المملكة المتحدة، ولم تكن مقصورة فقط على بريطانيا، فالناس أصبحوا يقرأون أكثر ويشترون كميات أكبر من الكتب، موضحة انه خلال العام 2020 تم بيع أكثر من 200 مليون كتاب والعام الأقرب له.
وأضافت لويس: في 2020 عندما عجز الناس عن ممارسة الترفيه الذي اعتادوا عليه، اتجهوا نحو مزيد من القراءة
وفي 2021 بالمملكة المتحدة، تم بيع 12 مليون كتاب لذا فقد فقدنا الكثير، وفقد البعض أكثر من غيرهم خلال الجائحة العالمية ولكن هناك دوما بصيص من الأمل، وأظن ان قراءة الكتب هي أحد الأمثلة بالتأكيد، وأشعر بالفضول للإنصات إلى المتحدثين حول موضوع الأنماط المختلفة من الهويات الشخصية البريطانية والتي أظن أنها ستكون مختلفة جدا عني، وبعد الاستماع إلى المتحدثين جلست أفكر فيما هي القصص التي يمكنني مشاركتها معكم مما جعلني أفكر في رحلتي الشخصية التي دفعتني لمعرفة المزيد عن جوانب عائلتي وبالتحديد والدي وذلك لان عائلتي لم تكن تتحدث أبدا بالمرة عن تاريخهم او رحلتهم او عما أتى بهم كمهاجرين للمملكة المتحدة او الأوقات التي عاشوها والأقارب الذين فقدوهم وأنا كنت مهتمة جدا بهذه الأمور.
وتابعت: عندما كانت عمة أبي على فراش الموت في عمر 86 عاما، سألناها مجددا باعتبارنا أحفادها: ماذا يمكنك ان تخبرينا عن تاريخنا ويكون بمنزلة مفتاح للغز يمكننا تتبعه حتى نفهم المزيد عن عائلتنا، وما أخبرتنا به هو اسم المدينة التي جاء منها جدنا الأكبر، مؤكدة ان هذه البلدة هي المكان الذي تربت فيه عائلتنا بكاملها وهذا هو المكان الذي يمكن ان يقودنا لفهم اسم عائلتنا، وفكرت فيما الذي يمكن استنتاجه من هذا الاسم، فهو متعلق بدولة مختلفة في أوروبا الشرقية، ربما كان بإمكاني دراسة هذه اللغة، ولذا ذهبت بكل جدية لدراسة اللغة الپولندية في المعهد الپولندي الثقافي.
تكريم الشركاء
قامت مكتبة «تكوين» بتكريم الشركاء في الملتقى، حيث تم تكريم المجلس الثقافي البريطاني وتسلم التكريم مايكل جوردن، كما تم تكريم الجامعة الأمريكية وتسلم التكريم د.عبدالرحمن الفرحان، وجريدة «الأنباء» وتسلمته الزميلة آلاء خليفة بالاضافة الى منصة الفن المعاصر وتسلمه ابراهيم فرغلي.