آلاء خليفة
ذكر معلم اللغة العربية يوسف المحميد أن الروائيين يخلقون شخصيات أعمالهم، ويسبغون عليهم هويات تعينهم على تحريك أحداث الرواية وتعقيدها وصولا إلى الحل، وينتج عن ذلك عمل أدبي جميل، أما المعلمون فلا يملكون القدرة على خلق الشخصيات، وحرموا حرية اختيار الهويات التي يراد إسباغها عليها، لكنهم يشتركون مع الفريق الأول في العمل على تشكيل هويات الشخصيات التي فرضت عليهم، أو فرضوا عليها، لكن هذا العمل ـ إذا نجح ـ لا يسفر عن أدب جميل بل عن مواطن صالح.
جاء ذلك خلال ندوة «ما الذي يضيع بضياع اللغة» والتي قدمها معلم اللغة العربية يوسف المحميد ضمن ملتقى «تكوين» الثالث المنعقد تحت شعار «تساؤلات الهوية.. من نحن؟ وما الذي يمكن أن نكونه؟» والذي تنظمه مكتبة تكوين بالتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني ومنصة الفن المعاصر وبرعاية إعلامية من جريدة «الأنباء»، حيث عقدت الندوة بحضور مؤسسة مكتبة تكوين الروائية بثينة العيسى ومدير عام منشورات تكوين الشاعر محمد العتابي وعدد من الأدباء والمثقفين، قائلا: كي ينجح المعلم في عمله لابد من تبسيط شخصية الطالب بعد تبسيط عقله، وتبسيط هويته بعد تبسيط شخصيته، وكل ذلك بهدف إدماجه في المجتمع، وخلق مشتركات بينه وبين بقية أفراده تسمى هوية ثقافية تارة، وهوية وطنية تارة أخرى، وهذا عكس المطلوب من الروائيين الذين يتجلى فنهم في خلق شخصيات معقدة لأبطال أعمالهم، ذات هويات مركبة غنية، ليكتسبوا بذلك صفة التعقيد التي تضفي على الرواية عمقا وحياة.
وأوضح المحميد أن التعليم المشروع لا غاية له سوى تمكين الفرد من التحرر مما يفرض عليه بالقوة، ليكون مسؤولا عن اختيار هويته وتعديلها أو تغييرها، وليكون قادرا على مساءلة الهويات التي تفرض عليه، فيعتنق منها ما يشاء أو يرفض منها ما يشاء.
وأفاد بأن الهوية لا تضيع بضياع اللغة بل تضيع اللغة بفقدانها هويتها وثقافتها، مشيرا إلى انه لا يمكن أن تضيع لغة يتخذ أهلها منها موقف الاعتزاز بثقافتهم التي تعيش في لغتهم.
وأوضح المحميد أن علماء المسلمين في القرون الأولى، أقبلوا على جمع تراث الجاهلية شعرا ونثرا، ودرسوا عاداتها وأفكارها، وشرحوا أمثالها، وأرخوا أيامها، وبينوا الدلالات الثقافية لألفاظها، واستقرأوا كلام الجاهليين والأعراب في زمانهم ليزدادوا علما بنظام التشفير اللغوي المعتمد على قوانين إنتاج العبارات اللغوية، والأعراف الثقافية المرتبطة باستخدامها، وكل ذلك في سبيل جعل النصوص المقدسة قابلة للفهم والحياة، ولو لم يفعلوا ذلك لما كان للعربية العمر الذي عاشته.
وتابع: اللغة لا تضيع إلا إذا تخلى الناس عن استخدامها في مجالات حياتهم، ولا يتخلى الناس عن لغاتهم إلا إذا اتخذوا موقفا سلبيا منها، أو قدسوها تقديس من لا يفهم، وهذا لا يكون إلا إذا فقدت ثقافة اللغة قيمتها في نفوس أبنائها، مشيرا إلى أن ثقافة اللغة ليست سوى ثقافة مستعمل اللغة سواء تلك التي ورثوها أم تلك التي أبدعوها بأنفسهم.
من ناحية أخرى، أشار المحميد إلى أن هناك التباساً لغويا ناتجا عن استخدام كلمة «الهوية» بصيغة المفرد للتعبير عن خيارات قد لا يكون لها حصر.
وقال: نحن نعبر عن الهوية الإسلامية وكأنها شيء واحد لا تعدد فيه، بينما الواقع أننا بصدد هويات إسلامية غنية ومتنوعة بتنوع المذاهب والمدارس الإسلامية والثقافات المحلية التي جاورت الإسلام في كل بقعة حل بها، وكذلك الحال عند الحديث عن هوياتنا العرقية والإقليمية والوطنية والقبلية، وقد لا يكون هذا اللبس ناتجا عن الاستخدام اللغوي لكلمة «هوية»، بل إن العلوم الإنسانية في صورتها القديمة عززت اللبس حين استعانت بمنطق الاختزال والتعميم للتعبير عن تلك الهويات، خالقة بذلك صورا نمطية بسيطة تعمل عليها أدوات التأمل والبحث العلمي، كما تعززها أعمال الأدباء والمثقفين والرحالة.
وزاد: ثم أتت الدولة الحديثة بما أتيح لها من سلطة وقوة، ومن رغبة في تأكيد وجودها المستقل، فابتدعت لنفسها هوية وطنية سعت إلى جمع الناس عليها، وإذابة هوياتهم فيها، واستعانت في سبيل ذلك بالتعليم الرسمي والإعلام الرسمي والأدب والفن المدعومين رسميا، وبرجال الأمن وبعض شيوخ الدين وبهلوانات السياسة، فصار الفرد فيها ينشأ في المحيط الرسمي ضمن هوية وطنية واحدة يراد له أن يعتنقها.
وأوضح المحميد أن الدول تنشئ مطابع الهوية الرسمية التي يسمونها المدارس، وفيها تفرض بالتلقين القراءة الرسمية للدين والتاريخ والثقافة والأدب والفن والعلم والأخلاق، وعادة هذه القراءة أن تكون بسيطة سطحية تلائم عقل الدولة وتتسق مع عقل مجتمعها، وهي مليئة بصور نمطية مثالية في خيرها ومثالية في شرها، وبأحكام معمّمة حول الذات والآخر، والجميل والقبيح، والصحيح والخاطئ.