تزكيتي في شقيقي مجروحة، ولكن عندما يبكيه ويرثيه الكثيرون، فمن حق غيرهم أن يطلعوا على مصدر هذا العشق من حياته.
تربّى من منتصف الخمسينيات تحت رعاية عائلته الكبيرة المتدينة والتي تتولى أمر الحسينية الكاظمية القديمة منذ 1890 في شرق الكويت والتي غلب عليها مسمى (البكاي) بسبب إفراط جده بالبكاء على سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام.
ومع انتقال أسرته الصغيرة إلى خارج السور إلى منطقة واو «الدسمة» بالقرب من مسجد النقي أيام الستينيات فكان ذلك طفرة نوعية في بناء وعيه الإسلامي العقائدي والفقهي من خلال دروس ومحاضرات أئمة صلاة الجماعة من العلماء، فأصبح التدين جزءا من شخصيته، فهو من «فتية مسجد النقي»، وكان يناقش أساتذته في مدرسة سيف الدولة المتوسطة في القادسية باحترام وود وبعمق، حتى أن أحد أساتذته قد غفل عن تناول فطوره وهو منغمس بالحوار معه عن «الولاية»!
هذا التدين الواعي جعله يدرك أن الدفاع عن الوطن شرف مقدس، فالتحق بالكلية العسكرية ليتخرج ملازما قبل ترقياته المتعالية في الجيش الكويتي، فيلتزم بالثبات والصمود في «الجيوان» أمام جحافل قوات الغزو البعثي العراقي صباح يوم 2 أغسطس 1990، حتى جاء الأمر العسكري بالإخلاء، فالتحق بالقيادة السياسية الكويتية في السعودية بعد عملية تخفٍّ ذكية وخطيرة كادت تودي بحياته.
رتبته العسكرية العالية، لم تثنِه عن تواضعه أمام خدمة الناس والبر بهم بغض النظر عن هواياتهم، حتى أن مجلس تلقي العزاء به قد تحول إلى لقاء للوحدة الوطنية والإقليمية، ومنهم الحجاج ضيوف الرحمن في الحملات الكويتية، فكان يعمل في لجان الضيافة كأي عامل متواضع، وقد تطلبت إحدى المرات أن تحتاج إحدى المؤمنات الفاضلات العاجزات إلى استنابته لأداء عنها بعض أعمال الحج الشاقة عليها، فاشترطت عليه أن يأخذ هدية مالية مجزية، لكنه رفض هذا العرض الدنيوي وعوضا عنه اشترط عليها أن تأخذ بيده إلى الجنة إذا قدر الله لها ذلك!
يحب الصلاة ويشتاقها حتى أصبح حمامة مسجد! يتسلل ليلا وهو فتى من فراشه الدافئ في ليالي الشتاء الباردة إلى المسجد متحاشيا الكلاب الضالة في ملعب النادي العربي السابق المهجور، ليتهجد إلى ربه بصلاة الليل.
وفي شهر رمضان لابد له من «الاعتكاف»، حتى أوكل إليه المتولي في مسجد سيد هاشم بهبهاني لتدبير أمور المعتكفين فيه.
له في كل مكان مدرسة، يجمع الصغار ليعلمهم مبادئ أصول الدين وفروعه، وكيفية الوضوء والصلاة، والستر الشرعي للبنات.
ولم يكن ذلك ينسيه أن يأخذ نصيبه من الدنيا، فتعاطى التجارة، ولكنه يأخذ بقول المعصوم عليه السلام «الفقه ثم المتجر»، وكان يحرص على إخراج الحقوق الشرعية بأدق تفاصيلها.
وكانت له مواقفه وآراؤه ومشاركته السياسية التي لا تخرجه عن حدود أدب الخلاف، فلم يحمل في قلبه غلاً ولا ضغينة لأحد.
طيب القلب، يرق لتألم عاملته المنزلية بسب ضيق يدها لدفع تكلفة علاج والدها المريض، فيبادر بتحمل كامل التكلفة.
يتواصل مع أرحامه بلا ملل ولا كلل كواجب شرعي قبل أن يكون عرفا اجتماعيا، فتبنى بنفسه متطلبات بناء ديوان العائلة بالدسمة ويشرف عليه بكل تفاصيله الفنية والإدارية والمالية.
تحمّل كذلك مساعدة متولي الحسينية الكاظمية (البكاي) بالشعب في إدارة شؤونها المالية والإدارية، أحبه خطباء المجلس الحسيني فهو دائم الترحيب بهم، والإشادة بهم بالشكر والتقدير تجاه إيجابيات المواضيع المطروحة على المنبر، مثلما يقدم لهم نقده البناء باحترام وبتقدير جم، ليختم المجلس بقراءة زيارة المصطفى وآله الأطهار.
أكثر ما آذاه في نهاية حياته، ليس آلام المرض ولا غربة وحشة السفر الطويل، ولكن آلامه الأكثر الحرمان من المسجد، حتى انه - في أواخر حياته - طلب من ابنته في الكويت ان تسمعه صوت الأذان عبر الهاتف. وكانت آخر كلماته لولده حسين المرافق له «قم ودني المسجد»!
لكنه ذهب إلى ما هو أعظم عندما عرج إلى البارئ ليجمعه مع من كان يحبهم ويتولاهم النبي المصطفى وآله الطاهرين والشهداء والصديقين والصالحين - بإذن الله تعالى - وحسن أولئك رفيقا.
فما أحلى اسمك يا أبا صالح! عادل عبدالحميد الصالح.. نشهد الله على ذلك، فهنيئا لك، ولنصبرن على فراقك صبر الشاكرين إن شاء الله تعالى، فأنتم السابقون ونحن اللاحقون حتما.. و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
الفاتحة.
[email protected]