في أواخر الستينيات كانت قمة سعادتنا أنا مع إخوتي عندما يأخذنا والدي ـ رحمة الله عليه ـ في جولة بسيارته إلى ساحل البحر (السيف)، هذا المكان المحبب إلى والدي فبرؤيته له يسترجع ذكريات السفر بالأبوام الخشبية، أما نحن فنطير فرحا بمجرد أن (تهف علينا ريحة) البحر ونسماته الرطبة من (درايش) السيارة، عندها ندرك أننا اقتربنا منه، تنعطف سيارتنا في (سكة) نعرف ملامحها جيدا فيقول لنا والدي (شوفوه بيّن البحر)، تلك (السكة) المحاذية لسور مضلع الشكل والذي رغم حداثته لم يسلم من عبث المارة والرسم على جداره آنذاك، كان مرسوما عليه شخصية كرتونية مشهورة في ذاك الزمان هي (مرت بباي)، صمد هذا الرسم الكاريكاتيري فترة طويلة حتى أسميناه بعبارتنا الطفولية (شارع مرت بباي) الذي تربطنا به لحظات حلوة وذكريات جميلة، إنه هو ذاته سور قصر السلام.
تلك هي حدود معرفتنا لسور قصر السلام منذ أكثر من 50 عاما، ولم أكن أتصور أنه سيأتي اليوم الذي استطيع أنا وغيري أن نتعرف على ما وراء هذا السور ومشاهدة كل تفاصيل القصر من الداخل.
سمعت كما سمع الآخرون أنه أصبح متحفا، وأن بإمكاننا زيارته في أي وقت، فبحثت عن مواعيد الزيارة عبر موقعهم الإلكتروني الذي من خلاله يستطيع أي زائر حجز تذكرة الدخول، لاحظت ارتفاع سعر التذكرة قليلا، ولأنني من رواد المتاحف داخل الكويت وخارجها، أعرف أن أسعار المتاحف عادة تكون رمزية تشجيعا من الدولة على تثقيف الزوار إن لم تكن مجانية، ولكن بعد زيارتي له أدركت انه يستحق أن يكون مختلفا عن غيره في سعر بطاقة الدخول، فالمتحف فعلا (متعوب عليه)، إنه يضم ثلاثة متاحف أو أجنحة مختلفة المواضيع ذات مادة ثرية، استخدمت أعلى مستويات التكنولوجيا السمعية والبصرية لتوضيح المعلومة للزائر، فيه من الإبهار الفني الشيء الكثير.
إنه قصر السلام الذي جاءت فكرة بنائه في مرحلته الأولى برغبة من الأمير الراحل الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح ـ رحمه الله ـ على أن يتخذه مسكنا له في أواخر الخمسينيات، وبعد استقلال دولة الكويت في 19 يونيو عام 1961م كانت هناك ضرورة لوجود قصر لاستقبال ضيوف الدولة، فكلف الأمير الراحل المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح الأمير الراحل المغفور له الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح وكان آنذاك وزيرا للمالية باستكمال بناء القصر وتحويله لقصر ضيافة ليستقبل أول ضيوفه في عام 1962م.
استقبل قصر السلام أكثر من 166 زيارة من ملوك ورؤساء دول وشخصيات مهمة على مدى 26 عاما، ثم تعرض للتدمير الكامل أثناء الغزو العراقي الغاشم عام 1990، وظل بعدها 23 عاما مهجورا مهملا.
ثم أعيد ترميمه وتحويله إلى متحف على مستوى عال تحت مظلة الديوان الأميري، افتتحه الأمير الراحل المغفور له الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في 29 ابريل 2019م. لكنه اغلق في زمن كورونا وأعيد فتحه من جديد.
بعد تجربتي الممتعة في متحف قصر السلام، أدعوك عزيزي القارئ لزيارته، فبمجرد دخولك إليه ترافقك الفخامة في كل مكان، بدءا من مواقف السيارات حتى نهاية الجولة التي مدتها ساعتان ونصف، ستلاحظ ما ادهشني من دقة بدء موعد الجولة لأروقة القصر تماما كما هي موجودة في التذكرة، سيرافقك مرشدون كويتيون وكويتيات أكفاء في سرد المعلومة بمنتهى الاحترافية والذوق الرفيع، بعيدين عن التكلف في المظهر سواء بالملابس او المكياج، تميزوا بأدب واتيكيت المخاطبة مع الزائرين.
أحييهم وأشد على يد من أشرف على اختيارهم، فهم حقا واجهة مشرفة ليس فقط لمتحف قصر السلام بل للكويت وللكويتيين، تحية للقائمين عليه، شكرا من الأعماق لقد أثلجتم صدورنا.
كلمة أخيرة.. أتمنى أن يحافظ هذا المتحف على مستواه وألا يتخلى الديوان الأميري عن مسؤوليته له في السنوات القادمة ولنا في حديقة الشهيد عبرة.
ودمتم..