مفرح الشمري
جدّدت الفنانة اللبنانية المتألّقة، جاهدة وهبي، المعروفة بـ"شاعرة الصوت"، حرصها على "الغناء الأصيل الذي يحاكي الروح ويخاطب القلب والوجدان ويترك أثره في الوجود. إذ لولا الفن لكانت حياتنا شقاءً أقرب إلى الموت". ورأت أنّ الفن أنقذها من ندوبٍ وجراحٍ كثيرة، فهو يساعدنا على مصارعة الموت ومقارعة الحزن". وإذ أسفت لـ"اختلال معايير الثقافة في ظلّ العولمة واضطرابات العالم العربي"، أكّدت "أهميّة الرقابة على المصنّفات الفنيّة والحفاظ على علاقةٍ وطيدةٍ مع جيل الشباب من خلال المسرح والأغاني والأعمال الفنية الراقية، سيّما أنّ هذا الجيل اعتُسفت ذائقته ومخيّلته".
كلام الفنانة الكبيرة التي جمعت بين الكتابة والشعر والغناء والتلحين والمسرح، جاء خلال الحلقة الحوارية لبرنامج "الجوهر" للتدريب الإعلامي الذي نفّذته أكاديميّة لوياك للفنون – "لابا"، بموسمه الثالث. وقد عُقدت الحلقة في العاصمة اللبنانية، بيروت، تحت إشراف الإعلامية القديرة رانيا برغوت، بمشاركة طلاب البرنامج في كلّ من الكويت ولبنان.
أداوي جراحي بالمسرح والموسيقى
جاهدة، التي نشأتْ وسط عائلةٍ تحبّ الشعر والموسيقى، استذكرت كيف كان والدها يكافئها دومًا بآلةٍ موسيقيّة. وفي سياق ردّها على الطالبة حوراء الإبراهيم، أضافت: "أحمل ذاكرةً جميلةً عن عائلتي، فوالدتي جمهوري الأول، وإخوتي بدورهم شجّعوني. غير أنّ والدي توفّي ووالدتي مرضت خلال فترة مراهقتي، فاختبرنا فترةً أليمةً، حاولتُ أن أُشفى منها عبر شغفي بالموسيقى والمسرح". وعن عدم زواجها واستشهاد حبيبها، قالت: "ربّما بات الفن هو الحبيب، فقد قرّرتُ عدم الارتباط، لأنّني أركّز على الخلق الفني والموسيقي".
"المجاهدة في سبيل الفن الأصيل"، كما لقّبها العملاق الراحل وديع الصافي، أعربت عن امتنانها للآلام والجراح "التي ربّما كان لها الأثر الكبير في حياتي، ومن ضمنها اعتقال شقيقتي تعسفًا وظلمًا في السجون الإسرائيلية، إذ علينا أن نتعلّم الانعتاق من جراحنا وأن نصبح أخصب وأنقى".
القصيدة هي الآخر المعشوق
وإذ اختزلت وهبي جوهرها بـ"العشق والحب"، كشفت أنّ الأغنية بالنسبة لها مخاضٌ عسير، "لذلك أتعامل مع النص والقصيدة كأنّها الآخر المعشوق". وفي تعليقها على سؤال الطالبة سمر الكريدي، حول اختيارها من قبل جامعة "كامبريدج" كإحدى أهمّ الشخصيات الثقافية للقرن العشرين، قالت جاهدة: "بقدر ما أسعدني الاختيار بقدر ما حمّلني مسؤولية". وعن سبب انتقائها نصوصًا أدبيّة وشعريّة من لغاتٍ أجنبيّة، أجابت: "مكتبتنا الأدبية العربية زاخرة بالقصائد والأشعار الجميلة، كما أنّ علاقتي مع اللّغة العربية علاقة غرام وعشق، غير أنّني أحيانًا أصادف قصائد ونصوصًا أجنبيّة، وكأنّها تناديني لترجمتها وغنائها، ما يؤكّد أهميّة الانفتاح على القصائد الجميلة بلغاتٍ أخرى".
الفنانة التي اعتلت أعرق المسارح الدولية، استذكرت كيف انطلقت مسيرتها من "مسرح المدينة" في بيروت، واصفةً إيّاه بأنّه "روح من أرواح المدينة، بحيث ساهم في النهضة الثقافية الكبيرة لمدينتنا وعالمنا وشبابنا". وهي إذ شكّلت علامة فارقة في عالم الفن والموسيقى والمسرح، أوضحت أنّ الشهرة لم تكن يومًا تعنيها، إنّما رغبتْ أن تعبّر عن مكنوناتها وتؤسّس للجودة والأصالة، وأسفت لـ"اختلاف معايير الشهرة، حيث بات الرهان على عدد المتابعين، ما يعزّز فكرة تحقيق الأرباح، ويتسبّب بانحراف ذائقة شبابنا وأخلاقهم".
واعتبرت في ردّها على الطالبة فاطمة فاخرجي، أنّ "وسائل التواصل الاجتماعي سيف ذو حدّين، فمَن يملك الموهبة ومَن لا يملكها يصل، والمجتمع شريكٌ بإيصالهم. لذلك، علينا إرساء سبلٍ لتوجيه الجيل الجديد نحو الفنّ الأصيل".
أغنّي وأتجلّى وكأنّها المرة الأخيرة
وعن اللّقب الأحبّ إلى قلبها، اكتفت بـ"جاهدة المجتهدة المصرّة أن تجتهد دائمًا وتقدّم شيئًا مختلفًا. فكلّ لقب من كبار الفنّ، هو شهادةٌ كبيرةٌ أعتزّ بها وتحمّلني مسؤوليّة الحفاظ على الفنّ الراقي". ابنة البقاع اللبناني التي أخذتْ من سهله انسيابيّته وامتداده الكبير، وتماثلت مع الجبل بشموخه وعصاميّته، تحدّثت عن علاقةٍ جذريّة مع أصدقائها، لكنّها أكّدت حبّها لاستقلاليّتها ووحدتها، وشغفها بالتركيز على الشعر والموسيقى والترحال والسفر.
وتعقيبًا على سؤال الطالبة ميساء شيب الدين، رأت جاهدة في "الحزن أوجهًا جميلة وحقيقيّة، فهو يشكّل حياتنا ويعيد بناءنا، وأحيانًا أبكي ليس حزنًا أو اكتئابًا، إنّما من الجمال والتأثّر والانفعال واستحضار الذاكرات".
وهبي، التي تغنّي أنماطًا مختلفة بين الكلاسيكيّة والوطنيّة والصوفيّة، كشفت أنّها وفي كلّ مرة تعتلي فيها المسرح، تعطي من عنديّاتها ووجدانها، وكأنّها المرة الأخيرة، وتكون سعيدة حدّ البكاء، مضيفةً: "لمَ لا أتجلّى ولمَ لا أكون أكثر من جاهدة جميلة في نفس الوقت؟!". واختصرت حياتها بالقول: "روحي تشتّت بين الأحزان، لكنّ مرض والدتي ورحيلها أثّر بي كثيرًا، وكأنّ أوصالي كلّها تفكّكت".
أرنّم للأديان كافّة وألامس الروح والأوجاع
الفنانة التي قدّمت الغناء الشرقي والتجويد القرآني، سردت كيف أنّها أنشدت "طلع البدر علينا" داخل الكنيسة وفي أكثر من احتفالٍ، وكذلك قدّمت ابتهالاتٍ مسيحيّة في أماكن ذات طابعٍ إسلاميّ. وتابعت: "الله واحد وواجبنا كفنّانين أن نجمع البشر حول هذه الفكرة. فأنا أحترم كلّ الأديان، ومن هنا أقدّم الإنشاد المسيحي والإسلامي والسرياني والبيزنطي، وأرنّم للجميع".
وعن سبب اختيارها اختصاص علم النفس، كشفت جاهدة عن رغبةٍ شديدة انتابتها لقراءة نظريات علم النفس وتحديد الانفعالات والهواجس. وسردت للطالبة هبة نور الدين، تمنّياتها أن تحمل موسيقاها "نوعًا من الشفاء للأفراد، فيتفلّتون من مشاكلهم ويتّجهون نحو عالمٍ أنقى وأجمل".
جاهدة، التي حاولتْ تخفيف آلام والدتها بالغناء، تحدّثت عن ضعفها أثناء مرض والدتها، قائلةً: "الفنان يدخل أحيانًا في صومعةٍ من التصحّر والصمت والإحباط والعجز. لذلك، أكون أحيانًا غير قادرة على الإنتاج والغناء والتلحين، كما حصل في الرابع من أغسطس 2020، يوم الجرح الكبير لبيروت، غنّيتُ حينها نوعًا من صرخة بلا موسيقى، بمعنى أنّ "وطني يؤلمني".
لا أتحمّل البذاءة السياسيّة في لبنان
ولا تختلف حال "ديفا الشرق" عن حال اللبنانيّين، فهي محبطة وغاضبة من الوضع المتأزّم، لكنّها اكتفتْ بالقول: "لا جواب يعبّر عن الأسى، وليس أمامنا سوى الأمل بمعجزةٍ تحقّق الخلاص".
جاهدة، التي لا تحبّ الحديث بالسياسة، أجابت الطالب أنطوني مخول بالقول: "لا أتحمّل هذا الكمّ من البذاءة السياسيّة في لبنان، لكن الوضع يجرحني ويؤلمني. وما يزيد الأمور تعقيدًا غياب الحوار بين الأطراف السياسيّة، لكنّني مؤمنة أنّ الحوار بين أهل البلد سبيلٌ للخلاص من الجحيم. غير أنّ ما يعتصر قلبي أنّ الجيل الجديد، يتعرّض لكثيرٍ من التهميش والتهشيم لفكره". ولفتت إلى أنّه "من الممكن أن يساهم الفنّ بتطوير المجتمعات وتوجيهها نحو الفكر الحر والعدالة والمساواة وخلق الوطن الحلم".
ورأت الشاعرة والملحّنة، التي غنّت الصوفي والبيزنطي والسرياني، أنّ "العولمة تسبّبت بتغريبنا عن هويّتنا الثقافية، وإبعادنا عن جذورنا وأصولنا". ومن منطلق الحفاظ على الفنّ الراقي، أكّدت جاهدة أنّها مع "الرقابة على المصنّفات الفنيّة، لكن ليس بمعنى المقصّ التعسّفي".
شبابنا متلهّثٌ لدهشةٍ مفقودة
وفي إجابتها على الطالبة زنّوبيا ظاهر، أعربت جاهدة عن سعادتها وحتّى احتمال بكائها لدى مصادفتها الشباب المتعلّقين بالشعر والموسيقى والباحثين عن الدهشة المفقودة". وأوضحت أنّه "لا يمكن فصل المرأة الشاعرة عن بيئتها ومجتمعها، غير أنّه يحزّ بقلبي توجّه الكثير من النساء لربط حياتهنّ بالصورة و"التريند" والعالم الافتراضي".
ختامٌ بلمسات "شاعرة الصوت"
وتميّزت الحلقة بمقاطع أنشدتها "شاعرة الصوت ومثقّفته"، بمشاعرها المرهفة وصوتها الساحر. كما توجّهت بالشكر إلى مؤسّسة "لوياك" و"لابا" لإتاحة الفرصة أمامها للقاء الشباب، متمنّيةً لهم مستقبلًا واعدًا. بدورها، أشادت رئيسة مجلس إدارة "لابا"، فارعة السقاف، بالفنانة الكبيرة، "التي حلّقت بنا نحو مناطق عليا، حيث لمستُ مزيجًا من الحزن والبهجة والرومانسية الشديدة والصلابة والعنفوان، وصورًا متناقضة بمنتهى الانسجام والجمال". كما أثنت على "جهود الطلاب في إعداد الأسئلة وطرحها بحرفيّةٍ متميّزة".
وأعربت برغوت عن فخرها بمستوى الطلاب، مبديةً إعجابها بـ"جاهدة وصوتها الجميل"، كما بـ"إصرار السقاف دومًا على اختيار نخبة النخبة".