لايزال في عالمنا رجال رفعوا رايات الفكر الإستراتيجي وتحملوا في سبيله كثيرا من الآلام الصحية من أجل بسط وتطوير المفاهيم وفق إستراتيجيات حديثة، لتكون السبيل الأمثل والأجمل لبلوغ الأهداف والوصول إلى أسمى الغايات، ومن هؤلاء الرجال رئيس الأركان العامة للجيش الأسبق الفريق الركن عبدالرحمن محمد العثمان، رحمه الله تعالى، الذي له اليد الطولى في غرس إستراتيجية المفاهيم العلمية والتنظيمية المعاصرة وبيان مدى ملاءمتها مع الظروف الحالية والمستقبلية للقوات المسلحة، فأصبح أسطورة عسكرية تحكى إلى يومنا هذا، ومن الطبيعي أن رجلا في قامة «العثمان» يشار إليه بالبنان على المستوى الإقليمي والدولي.
التحق «العثمان» بالكلية العسكرية عام 1973 ضمن الدفعة السادسة وتخرج في عام 1975 وتقلد مناصب عديدة منها آمر لواء السور الآلي/26 ومدير العمليات الحربية وملحق عسكري في باريس ومعلم في كلية القيادة والأركان في المملكة العربية السعودية ومعاون لرئيس الأركان لهيئة العمليات والخطط، وعمل نائبا لرئيس الأركان العامة ورئيس الأركان العامة للجيش، وظهرت عليه بوادر الذكاء والفطنة والقيادة منذ مرحلته الأولى، فكان متفوقا على زملائه الدارسين في جميع دوراته «بالمركز الأول»، وقد كوفئ بترقية استثنائية من قبل المغفور له الشيخ جابر الأحمد أمير الكويت الأسبق، رحمه الله، عند اجتيازه الدورة التأسيسية الأولى للمغاوير عام 1976 وحصوله على المركز الأول.
وذكر رفيق دربه رئيس الأركان العامة للجيش السابق الفريق أول متقاعد محمد خالد الخضر أن الفريق «العثمان» كان متميزا في جميع دوراته التدريبية، وقد حصل على مركز متقدم في كلية القيادة والأركان في الولايات المتحدة من أصل 900 طالب، وهذا المركز عالمي لا يستهان به، وكان من ضمن منهاج الدورة إدارة معضلة في تحريك قوة عسكرية إلى الشرق الأوسط، وقد قسمت لهذه المعضلة إلى 3 مجاميع، فأدار«العثمان» مجموعته بعبقرية فذة حتى وصل إلى الهدف بتفوق وبأقل الخسائر، وبذلك يعتبر هذا نجاحا عالميا حققه الفريق «العثمان»، وتاريخنا العسكري يقف له مبهورا في ذكائه ودهائه وهو المحور الرئيسي الذي يلتف حوله القادة.
برز «العثمان» كقائد ومقاتل شرس سريع البديهة وحسن التصرف أثناء الغزو العراقي، حيث كان أحد رجال المقاومة في منطقة الخالدية ومخططا لها، فوضع إستراتيجيته في تقوية الجبهة الداخلية وتأمين المنطقة حتى غادر البلاد بتاريخ 10 نوفمبر 1990 متجها إلى المملكة العربية السعودية عن طريق العراق إلى سوريا حتى وصل إلى الرياض في شهر ديسمبر 1990 فالتحق في العمليات المشتركة فكان مساعدا لرئيس العمليات المشتركة.
كانت حياة «العثمان» مليئة بالأحداث، وكفاءته العالية أهلته لوضع بصمة بالفكر الإستراتيجي المعاصر من خلال أسس ومفاهيم على المستويين الإستراتيجي والعملياتي، فرسم خطة الإعداد للجيش بعد التحرير مع قوى التحالف، ووضع خطة إستراتيجية وعملياتية للجيش في أزمة أكتوبر 1994 مع العراق، وأدار عمليات الجيش في الهجوم الأميركي على العراق 2003، وكان أحد المخططين في إعداد مشروع درع الجزيرة عام 2013، حيث شاهد «العثمان» ثمرة نجاح المشروع أثناء حركة الانفتاح للقوات والتي كانت وفق الخطة المرسومة والموقوتة وهو محلقا بالطيران العامودي مستطلعا لها وتمنى لو صور هذا الحدث، فقال كلمته المشهورة «هذا العمل لن يتكرر».
وكان لكاتب هذه المقالة موقف جميل لا ينسى مع «العثمان» عندما كتبت سيناريو مجرى الأحداث لمشروع درع الجزيرة 2013 كي أعلق عليه، اطلع عليه «العثمان» وقال هذا أسلوب عسكري «صرف» بمعنى لا توجد به أخطاء، فسأل عن كاتبه؟ فأجابه الفريق الركن بدر حجي المزين، رحمه الله، إنه المقدم الركن مساعد الحمدان فنظر لي بابتسامة وإعجاب.
وفي 20 سبتمبر 2014 ترجل «العثمان» عن صهوة جواده بعد مسيرة حافلة بالإنجازات، فكان صاحب تجربة فريدة وفكر إستراتيجي متميز جمع ما بين المدرستين القديمة والحديثة، وحظي بكفاءة قيادية بقيت بعيدة عن النقد أو التجريح، فساهم فكره بالأثر الأكبر في البناء ومهد طريقا منيرا للكثير، فكسب مجدا عظيما لن يمحوه التاريخ مهما حدث ومهما جرى.. ودمتم ودام الوطن.
[email protected]