اتصل بي أحد المتضررين من حريق سوق المباركية وهو جار كريم تربطني به علاقة جيرة تماما كما كان أجدادنا وآباؤنا - رحمهم الله - بحكم تجارتهم في سوق المباركية، على مدى قرن من الزمن حافظوا عليها حتى استرجع المولى أمانته، وامتدت هذه العلاقة بيننا فتبادلنا وبقية أصحاب المحلات المتضررة آهات نتائج الحريق وأبعاده علينا.
كان سبب اتصاله في ذلك اليوم لقرار جديد سمعه حول عزم الجهات المعنية القيام بهدم ما تبقى من محلاتنا التي احترقت وظلت أعمدتها عصية على النيران تماما كعصيانها على جحافل الغدر والخيانة عندما غزا المقبور صدام بلدنا الحبيب، ظلت هذه الأعمدة بعد الحريق صامدة شامخة تحتضن بقية آثار ثمينة تشكل أثمن وأغلى ما في هذا المكان، فمنذ اندلاع الحريق ونحن نحاول مع هذه الجهات أن نبقي على ما تم إنقاذه من لهيب النيران الذي لم ينج منه إلا القليل من هذا السوق المنكوب.
كانت النية في السابق ترك بقايا هذه المحلات وعدم التعرض لها بإزالتها لقيمتها التاريخية والأثرية، تنفسنا حينها الصعداء وقلنا العوض ولا القطيعة، كثفنا الجهود مع المخلصين من أبناء الوطن كي نبقى على ما ظل شامخا واستبشرنا خيرا بترميمه كي يكون شاهدا على تاريخ هذا السوق العريق، لكن يبدو أن هناك من لا يريد لهذه البقية الصامدة من الآثار أن تبقى.
لم يكن ذلك الاتصال وما نقله لي من معلومات مناسبا، فأنا أقضي إجازة في مدينة براغ عاصمة التشيك استمتع بجمال تراثها العريق، ألف على أسواقها القديمة، فكان اتصال صاحبي مقلبا للمواجع مكدرا للمزاج، أعاد ذكرياتي الأليمة بحريق محلاتنا وأحيا معاناتي النفسية والمعنوية التي خلفها الحريق وكذا على كل وطني غيور لسعته حرقة النيران على جزء مهم من تاريخ وطن لم نحافظ عليه وتراث ثمين استهين به وهوية مجتمع أصيل أضعناها.
حاولت أن أتجاهل ما أخبرني به صاحبي من سيئ الخبر، لأكمل جولتي في هذه المدينة التاريخية. شاءت الأقدار أن أزور براغ بعد 150 يوما تقريبا من اندلاع حريق سوق المباركية لتزداد الحسرة وأنا أجري المقارنة تلو الأخرى بين تراث كويتي أصيل كان مرصعا يوما على جوانب سوق تراثي أكلته نيران شرارة عامل مستهتر «حسب ما ذكر»، وبين أسواق مدينة براغ التاريخية التي يقدس أهلها معنى التراث لتجلب الملايين من السواح للاستمتاع والتصفح بجوانب التاريخ.
يعيدني القلق على صاحبي المتصل وأنا المدرك لمعاناته والشعور بويلاته وأنين حروف كلماته العابرة لآلاف الأميال ليفرض اتصاله العديد من الأسئلة المحيرة.. من الذي يسعى لإزالة ما تبقى من هويتنا الكويتية؟!
لم أجد الإجابة فأكملت مشواري حتى أجبرني ذلك المقهى للوقوف أمامه وأشاهد ذلك الجمع من الناس وقد جلسوا يستنشقون عبير تاريخ وإرث عريق، فاختلت نفسي أمام مقهى صاحبي المتصل الذي كان يملكه ويديره في أحد أهم وأبرز المواقع التراثية داخل أزقة سوق المباركية، يقدم لرواده من ساعات الفجر الأولى وحتى وقت متأخر من الليل استكانة شاي معدة على الفحم، تناوب عليه زبائنه منذ قرابة قرن من الزمن حتى أكلته النيران وأمسى في طي النسيان.
قلت: غريب ذلك التشابه بين هذا المقهى ومقهى جاري المتصل في الشغف والالتصاق بالتراث، فلربما نتبادل يوما معهم ثقافة وقيمة هذا التراث والهوية والوجود؟ وإن كنت أشك في ذلك!