- رحلة الشيخ أحمد الجابر إلى بريطانيا نيابة عن الشيخ سالم المبارك أدخلت الكويت إلى المجتمع الدولي على نطاق واسع
- الشيخ أحمد الجابر هنّأ ملك بريطانيا بالانتصار في الحرب العالمية الأولى وأهداه خنجراً عربياً وسيفاً مطلياً بالذهب وحصاناً
- خالد بورسلي شرح نظام الغوص في الجزيرة وطريقة عمل البحارة وأنواع المراكب وكيفية الإبحار إلى الهند قبل إيصالهم لغايتهم
- النوخذة محمد العصفور قبل بمهمة نقل أسماك مجففة من الهند إلى سيلان واستطاع تخطي الأخطار معتمداً على خبرته وذكائه وخرائطه
- الكويتيون كانوا يرحلون إلى سيلان (سريلانكا) في مواعيد محددة لأجل الغوص على اللؤلؤ حسب أنظمة الدولة الواجب التقيد بها
نعود مرة أخرى إلى موضوع سبق لنا أن تطرقنا إليه في مسامرة ماضية، وهو موضوع له صلة بالرحلات، ولكنه يختلف - كما سيتبين لنا - عنه بأن فحواه يلتفت عما كنا في صدده هناك إلى اتجاه آخر. وهذا هو ما سيتضح لنا فيما بعد، وما سنشير إليه في ختام هذا الفصل الذي سيحكي جانبا آخر من جوانب هذا الموضوع الذي شغل القدماء من ساسة أمتنا، ومجاهديها، وعلمائها، والرحالة من أهلها.
استوحيت فكرة هذا الفصل من حديث دار بيني وبين أخي الأستاذ الأديب صالح الغريب، حين كان عائدا من إحدى رحلاته الكثيرة التي رأى من خلالها - فيما أظن - كامل الكرة الأرضية. ولم تكن رحلاته هذه بغير فائدة، فإنه - حفظه الله - كان يستوعب كل مشاهداته، ثم ينقلها بحذافيرها إلى قرائه عن طريق كتاباته المستمرة التي يقدمها - يوميا - إلى متابعي نشاطه.
وعندما لقيته في آخر مرة كان عائدا من إحدى تلك الرحلات، وكان حديثه إليّ شيقا، ومتواصلا عن كل ما يتعلق بالبلاد التي كانت زيارته الأخيرة لها وهي: جورجيا، وقد ذكر لي كل ما يتعلق بها من جهات متعددة حتى لقد استفزني إلى زيارتها أو - على الأقل - القراءة الواسعة عنها. وهذا هو ما حصل، فقد طفقت مشغولا بهذا الأمر إلى أن تمكنت من الإلمام به والكتابة عنه، فجاءت هذه المسامرة.
جورجيا اليوم بلد مستقل جمهوري النظام، يتمتع بطبيعة خلابة تحف به الجبال الخضراء، وينابيع المياه المعدنية، وتتمتع عاصمته وهي (تبليسي) التي يكتبها العرب: تفليس بأجواء ذكرتها إحدى وسائط الدعاية السياسية، فقالت:
«لكي تحصل على أفضل برنامج سياحي في جورجيا لابد من رحلة إلى جبال تبليسي، حيث عقب تناول وجبة الإفطار، يمكنك القيام بركوب الباصات المتجهة نحو أشهر منطقة جذب سياحي في جورجيا وهو جبل كازبيجي، أو كما يطلق عليه جبل الثلج الذي يعد أعلى قمة جبل في جمهورية جورجيا، ثم زيارة أحد المعالم السياحية الرائدة هناك «قلعة أنانوري» التاريخية، مع الاستمتاع بتذوق المياه المعدنية التي تخرج من أراضي مناطق آلبن وجودوري، بالإضافة إلى الذهاب لمشاهدة دیر الثالوث المقدس، وأخيرا العودة الى الفندق للراحة من السفر».
(وليعذرني القارئ على ركاكة أسلوب هذا الإعلان، فهو محسوب على كاتبه).
كانت جورجيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وكان اسم جورجيا القديم هو: كرجستان، أي: بلاد الكرج. ومساحتها القديمة كانت تفوق مساحتها الحالية بكثير.
وصفها مؤلف كتاب: «بلدان الخلافة الشرقية»: كي لسترنج في كتابه، فقال:
«كرجستان هي التي نسميها اليوم: جورجيا، وقد وصف البلدانيون القدماء (الذين كانوا يكتبون عن البلدان) عاصمتها تفليس، فقال عنها ابن جوقل في المائة الهجرية الرابعة إن لها سورين، وهي حصينة لها ثلاثة أبواب، وهي خصبة كثيرة الخيرات».
وذكر لسترنج أيضا أنها لم تدخل في عداد الولايات الإسلامية إلا في وقت متأخر، ولكن ياقوت الحموي قال في كتابة المعروف «معجم البلدان»: وافتتحها المسلمون في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه. وذكر أن قائد المسلمين - يومذاك - هو حبيب بن مسلمة، الذي افتتحها وما حولها صلحا، وكتب بذلك عهدا.
واستمر لهذه البلاد تاريخ يمتلئ بالزعازع، والحروب التي كان بعضها متصلا بالمطامع، وبعضها الآخر له طابع ديني.
وعلى الرغم من عدم استقرار هذه البلاد، وما مرت به من صنوف التقلبات، فإن ياقوتاً الحموي ذكر أنه كان من بين أهلها جماعة من أهل العلم الديني الإسلامي، منهم:
- أحمد بن حامد التفليسي.
- محمد بن علي البيهقي.
- علي بن إبراهيم العاقولي.
وكان تحصيل هؤلاء للعلم في العواصم الإسلامية قديما، وقد قاموا بنشر العلم بعد ذلك في نواحيهم وغيرها.
وفاتح هذه المناطق: حبيب بن مسلمة بن مالك، هو من أبرز قادة الحرب المسلمين، وكان نزيل دمشق. قيل عنه أنه حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن اثني عشر عاما، وهو الذي تولى فتح المنطقة التي كانت تسمى أرمينية بتكليف من الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. وأرمينية التي افتتحها فكانت أوسع رقعة من جمهورية أرمينيا المعروفة حاليا.
وقبل الانتقال من بحثنا في أمر جورجيا، فإننا نورد هنا ما يتصل بهذه البلاد حديثا. فهي تقع في جنوبي غرب آسيا ومساحتها 69700 كم2، وعدد سكانها في سنة 1997م كان نحو 5174642 نسمة. ولا تزال عاصمتها هي تفليس التي ينطقها الأهالي هناك: تبليسي.
يحدها البحر الأسود غربا، وأذربيجان شرقا، وتركيا جنوبا، وروسيا شمالا، وفيها أنهار، ومناطق جبلية، وأخرى سهلية.
صارت جورجيا جمهورية سوفيتية في سنة 1921م، وأعلن استقلالها في سنة 1991م، تولى فيها السياسي المعروف في أواخر أيام الاتحاد السوفيتي إدوارد شفرنادزة - وهو من أهالي جورجيا - رئاسة حكومة انتقالية، ثم انتخب رئيسا للدولة بعد ذلك.
ولا ننسى أن نذكر أن اسم جورجيا يطلق - كذلك - على ولاية من الولايات المتحدة الأميركية، وهي من أكبر الولايات هناك، وعاصمتها أتلانتا، وهذه البلاد غنية بالمنتجات الزراعية والصناعات المختلفة كالمنسوجات القطنية، والتبغ، والقمح، ومنتجات الأخشاب، إضافة إلى الكيماويات والألمنيوم، والرخام، والحجر الجيري وغير ذلك.
***
وما دمنا نتحدث عن هذه الجهة من جهات بلدان الخلافة الإسلامية الشرقية، فلابد من الحديث عن خراسان، وكما حدث في الماضي لكرجستان (جورجيا) فقد حصل لخراسان، التي ذكرها كتاب «بلدان الخلافة - الشرقية» فقال ما يلي:
«وإقليم خراسان الحالي ليس إلا بقية للصقع الكبير الذي كان يعرف منذ أيام العباسيين حتى أواخر القرون الوسطى. فقد كان يضم حينذاك ما هو واقع الآن شمالي غربي أفغانسان.. وكان تقسيم خراسان عند العلماء البلدانيين من المسلمين القدماء على أربعة أقسام هي: نيسابور، ومرو، وهراة، وبلخ».
ذكر ياقوت الحموي خراسان في كتابه الشهير: «معجم البلدان» فقال عنها: إنها بلاد واسعة في وقت تأليفه لكتابه ذاك، وقال إن هذه البقعة الكبيرة قد فتح اكثرها ضمن الفتوحات الإسلامية الأولى عنوة وصلحا، وذلك في أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقد أطال في الحديث عن هذه البقعة من عدة جوانب، ولم ينس الشعر الذي قيل فيها. فأورد منه بعض الشواهد التي كان منها قول الشاعر الشهير العباس بن الأخف:
قالوا خراسان أقصى ما يُراد بنا
ثم القُفول، فها جِئنا خُراسانا
ما أقْدَرَ اللهُ أن يأتي على شَحَطٍ
سكان دجلة من سكان جيحانا سيحانا
عين الزمان أصابتنا فلا نظرتْ،
وعُذَبَتْ بفنون الهجر ألوانا(القفول: العودة، سيحان: نهر هناك).
وكعادته ذكر ياقوت أسماء نوابغ العلماء والمحدثين والفقهاء الذين أنجبتهم تلك البلاد، فكان عددهم كبيرا، وكانت مكانتهم عالية، وأسماؤهم من ألمع الأسماء في تاريخ الإسلام وخرسان اليوم جزء من إيران، وعاصمتها مدينة مشهد، وكانت كما هو الحال مع كرجستان صقعا واسعا تم افتتاحه في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد افتتحها الجيش المسلم بقيادة الأحنف بن قيس رضي الله عنه. وقد تم استكمال هذا الفتح في زمن الخليفة عثمان بن عفان في سنة 31 هـ.
وقد نزلها عدد من الصحابة الكرام، وتوفي ودفن فيها منهم: بريدة بن حصيب الأسلمي، وهو مدفون في مدينة مرو، وأبو برزة الأسلمي، والحكم بن عمرو الغفاري وعبدالله بن خازم الأسلمي المدفون في نيسابور، وقثم بن العباس رضي الله عنهم جميعا. وفيها مشهد قبر الإمام الثامن من أئمة آل البيت النبوي الشريف الاثني عشر علي الرضا المتوفى في سنة 202 هـ رضي الله عنه.
ولا داعي لذكر بعض أجزاء خرسان الأخرى لأن الأمر سيطول بنا إن أردنا ذلك.
والأحنف بن قيس من كبار القادة المسلمين، ولد في سنة 20 قبل الهجرة وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وتوفي في سنة 691م.
ومن المهم أن نذكر - ونحن نختم حديثنا عن هذين الموقعين من مواقع شرقي دولة الخلافة الإسلامية - كما سماها لسترنج - صلة بعض المناطق من تلك الجهات التي يشغلها الموقعان المذكوران بمركز الدولة، حيث مقر الحكومة الإسلامية، إذ من المعروف أن في كل جهة ممثل للحكومة المركزية يقوم بما يطلبه منه الخليفة من أعمال. ومن أجل تقريب هذا على الأذهان فإن ما جاء في سيرة رجل من رجال ذلك العصر هو عوف بن محلم الخزاعي يدل على ما نريد، خاصة من حيث تحديد هذه الأماكن وذكر أسماء أمرائها، وبيان أسمائها.
ومن أجل ذلك، فإن ما سيأتي أدناه كاف للبيان:
كان عوف بن مُحَلِّم الخزاعي أحد الأدباء المعروفين، والشعراء المجيدين، وكان صاحب أخبار ونوادر. وله معرفة تامة بالأحداث التي مرت بالناس، وكان ملازما لطاهر بن الحسين، المكلف بالمنطقة التي تشمل خراسان القديمة، منذ أيام الخليفة العباسي المأمون، وكان طاهر معجبا بابن محلم، فاتخذه لمصاحبته. وبقي معه - فعلا - إلى أن توفي في سنة 845م، وحل ابنه عبدالله في محله. وكانت إقامة ابن محلم مع الأب طويلة قيل إنها بلغت ثلاثين سنة، وكان يقدم الهدايا والأموال إلى ضيفه هذا، ولكنه لا يسمح له بالمغادرة.
وعندما توفي الأب وحل ابنه محله ظن صاحبنا أن من السهل له الآن أن يعود إلى وطنه الذي غاب عنه تلك المدة الطويلة، ولكن عبدالله بن طاهر تمسك به. وقد جرى بينهما بعد ذلك ما جعل الحاكم الجديد يوافق على سفر رفيق والده - وهو حزين - بعد أن جرى بينهما حديث كان الشعر هو الذي دل الحاكم الجديد على مدى اشتياق صاحبه إلى وطنه وأهله، ومدى رغبته في الرحيل، فسمح له بذلك بعد أن أبدى له أسفه على ذلك، وأمده بنفقة جزيلة.
وهنا قال عوف بن محلم أبياتا تدل على مدى تعلقه بالقوم الذين أقام معهم طوال المدة التي ذكرناها. وعلى ما وصل إليه حاله نتيجة لمفارقة من يحب، وبين كل ما يدعوه إلى مفارقة الحاكم. ومن هذه الأبيات ما يلي:
يا ابن الذي دانَ له المشرقان
وألبس الأمنَ به المغربان
إن الثمانين - وبُلِّغتَها.
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلْتني بالشَّطاط انْحِنا
وَكُنت كالصعْدة تحت السّنان
وعوّضتني من زماعِ الفتي
وهمِّه هَمَّ الهجين الهدان
وهِمْتُ بالأوطان وَجْداً بها
وبالغَوَاني، أين مني الغوان
فقرِّباني ـ بأبي أنتما -
مِن وطني قبل اصفرار البنان
وقبل مَنْعايَ إلى نسوة
أوطانها حرّان فالرقمتان
سقى قصورَ الشَّادِياخ الحيا
من بعد عهدي وقصور المِيَان
فكم وكم من دعوةٍ لي بها
أن تتخطّاها صُروفُ الزمانالصعدة: قناة الرمح، السنان: طرفه الحاد، الهدان: الأحمق، اصفرار البنان: الموت، القصور المذكورة هي التي كان آل طاهر يسكنونها وكان الشاعر يتردد عليها.
***
ها نحن قد انتهينا من الحديث عن الزمن الماضي وما جرى فيه من حيث وصف ما تم في هذه المنطقة الواسعة التي كانت مجالا لكل ما قدمناه، بل إنها في واقع الحال تتكون من منطقتين هما كرجستان (مع التركيز على جورجيا) وخراسان.
ولذا، فإننا - بعد ذلك - نتحدث هنا عن التحرك البشري في الزمن الحديث، ولكننا سنختار من ذلك ما يتعلق بالكويت أو على الأخص بأهلها. وستكون لنا وقفتان هما:
الوقفة الأولى تتعلق بالرحلة إلى سريلانكا التي كانت تسمى في وقت تلك الرحلات: سيلان.
وهي جزيرة في جنوبي الهند بالمحيط الهادي، مساحتها: 65610 كم2، وكان عدد سكانها في سنة 1998م يقرب من تسعة عشر مليون نسمة. عاصمتها كولومبو، وهي أهم موانئها، لسيلان مقدرة عالية على الإنتاج الزراعي، لاسيما أنها مشهورة بزراعة الشاي على مستوى العالم.
حكمها البريطانيون حكما مطلقا لم ينته إلا في سنة 1948م حيث استقلت، وصارت دولة ذات سيادة عضوا في الكومنولث البريطاني.
كان اسمها عند العرب القدماء هو: سرنديب. وكانت بريطانيا تتخذها منفى لأعدائها وأعداء حلفائها، وهناك أسماء عربية معروفة نفي أصحابها إلى هذه البلاد. وكانت سيلان - أيضا - ممرا للرحالة القدامى، وقد ورد ذكرها في كتبهم.
كان الكويتيون يرحلون إلى سيلان في مواعيد معينة تحت إشراف الحكومة السيلانية (الانجليزية آنذاك) من أجل الغوص على اللؤلؤ، ولسيلان أنظمة محددة تتعلق بهذا العمل لابد لمن يريد الغوص هناك من أن يتقيد بها، ولذا فإن السفن الكويتية لا تستطيع أن تبحر إلى سيلان من أجل هذا الغرض، لأن نظام الغوص هناك لا يتيح لها ذلك، وهذا ما يوضحه ما يلي:
حدثني المرحوم خالد راشد بورسلي، وهو رجل له دراية بتاريخ الكويت، ومعرفة بأهلها، وهو ابن من أبناء أحد النواخذة البارزين وكان الأب من أوائل الذين غادروا البلاد من أجل الدراسة في الخارج، فقد رحل في سنة 1306هـ (1888م) إلى مصر لتلقي العلم في الأزهر بالقاهرة، وقد أمضى هناك فترة ثم عاد، واسمه الكامل هو راشد بن ناصر بورسلي، وهو والد الشاعر المعروف فهد بورسلي وهو أخ لخالد الذي أنقل عنه المعلومات التالية:
يختلف نظام الغوص في جزيرة سيلان عن نظام الغوص في منطقتنا هنا، فمن نظامهم هناك أن يتم الغوص في منطقة معينة لمدة أربعين يوما فقط. وقبل بداية الغوص يقوم أحد المختصين بفحص قاع البحر والاطلاع على حالة المحار فيه. فإذا كان ملائما تم السماح للغواصين بممارسة عملهم، وإن كان غير مناسب كأن يكون صغيرا مثلا فإن الغوص يؤجل إلى السنة المقبلة.
وكانت العادة أن يأتي إلى الكويت مناد يطوف بالبلاد يدعو من يرغب في السفر إلى سيلان للغوص هناك، فيتجمع حوله الراغبون في ذلك. ويتولى هو نقلهم إلى حيث تقف باخرة من البواخر التي تقصد الهند، وهي توصلهم إلى الغاية.
وكان الشخص المذكور مسؤولا عن كل ما يتعلق بالغاصة من أجرة الباخرة والأكل في مقابل نسبة من حصيلة الغوص، فإذا وصلت المجموعة إلى سيلان، كان مقرها في موقع يقال له: تيتوكي وهو على ساحل البحر، حيث المغاص المقصود. وكان سكن هؤلاء في عرائش (عشيش) أعدت لذلك، وبجوارها لوازم الاغتسال والنظافة.
وطريقة العمل هناك هي في أن تستأجر المجموعة أحد المراكب الصغيرة وتتفق مع شخص يساعد الغواص في عمله (وهو ما تسميه هنا السيب) هذا هو نظام الغوص هناك. وأما ما يتعلق بالسفر الذي تقوم به سفن النقل والتجارة الكويتية، فإننا نستطيع أن نقول إن النواخذة الكويتيين قد عرفوا سيلان (سريلانكا الآن) ابتداء من سنة 1937م، وذلك عندما سنحت فرصة مهمة لأحدهم فأبحر بسفينته إلى هناك.
هذا النوخذة هو محمد بن عيسى العصفور، وهو من أبرز نواخذة الكويت في زمنه، وكان من مواليد سنة 1908م، في الكويت. وهو من ضمن أربعة من أمثاله شهد لهم قبطان سفينة الأسطول البريطاني شورهام.
كان هذا النوخذة في السنة التي اتجه فيها إلى سيلان قد وصل بسفينته إلى الهند في رحلة سفر عادية، وهناك جاءه أحد تجار الهند وطلب منه حين كان على الساحل الغربي للهند نقل كمية من الأسماك المجففة من هناك إلى كولومبو عاصمة سيلان.
وقد قبل القيام بهذه المهمة. ولم يكن أحد من أمثاله قد سار إلى تلك البلاد في مثل هذه المهمة، ومع ذلك فقد قبل القيام بالمجازفة ثقة منه بنفسه، وبمقدرته على تخطي الأخطار، فسار معتمدا على خبرته وذكائه، وعلى ما معه من معدات وخرائط.
ووصل - بالفعل - إلى هناك، فاتحا طريقا جديدا للرزق أمام عدد آخر من زملائه، فتمت بعد رحلته هذه عدة رحلات بقيادة نواخذة من أهل الكويت يقودون سفنا كويتية.
ولقد تحمل كثيرا من المشاق في سبيل الوصول إلى هدفه، ولكنه - في آخر الأمر - نجح في تحقيق ما يريد، ونزل إلى مدينة كولومبو وشاهد فيها مشاهدات كثيرة. وقد ذكر فيما بعد أنه أعجب بنظافة المدينة وطيب المعيشة فيها.
***
وهذه رحلة كويتية أخرى مهمة جرت في وقت شديد الأهمية قام بها رجل مهم هو الشيخ أحمد الجابر الصباح الذي سافر إلى بريطانيا وفق ما جرى في وقت سفره وفي أثنائه مما يلي نذكره أدناه:
تمت في الكويت استعدادات كثيرة بمناسبة تلبية الشيخ سالم المبارك الصباح (1864 -1921م) دعوة من بريطانيا لزيارتها بمناسبة انتهاء الحرب العالمية الأولى في اليوم الحادي عشر من شهر نوفمبر لسنة 1918م. وقد رأى الشيخ سالم أن يقوم مقامه في تلبية هذه الدعوة والقيام بالزيارة الشيخ أحمد الجابر الصباح. وقد كانت متابعة الشيخ سالم المبارك لهذه الزيارة دالة على اهتمامه بنجاحها لأنها كانت من الرحلات التي أدخلت الكويت إلى المجتمع الدولي على نطاق واسع.
وكانت الكويت قد أسهمت في أعمال هذه الحرب بالقدر الذي يمكنها القيام به، ولكنه كان دورا نافعا للحلفاء في وقته.
أتت دعوة الملك جورج الخامس (ملك بريطانيا آنذاك) في أوائل صيف سنة 1919م. وفي شهر أكتوبر من السنة ذاتها تمت هذه الزيارة.
وابتدأت وسط حفاوة كبيرة بالزائر الشيخ أحمد الجابر الصباح، وكانت إقامته في لندن بفندق كارلتون الذي كان يعد من أفخم فنادق العاصمة البريطانية في ذلك الوقت.
وقد أعد للشيخ ومرافقيه برنامجا حافلا شمل عدة زيارات شاهد الوفد خلالها كثيرا من الأماكن المهمة، ولم يترك مجالا من المجالات التي ورد ذكرها في البرنامج دون أن يتجه إليه. وكان من ذلك البرلمان ومحكمة هامبتون. وزار في أيام زيارته مدينة جلاسكو، واطلع على كثير من الإنجازات التي تمت فيها كالجامعة والجسر الرابع، وقاعدة الغواصات، وغير ذلك.
وفي كتابنا ملامح من تاريخ الكويت الصادر في سنة 2001م وصف تام لهذه الرحلة اعتمادا على مصدر مهم يجده القارئ هناك. ويهمنا هنا أن نورد وصفا لما يعتبر أهم ما كان في الزيارة، وهذا هو بحسب النص الوارد في الكتاب المذكور:
«وجاءت أعظم لحظات الزيارة، وكانت في 30 من أكتوبر عندما استقبل الملك جورج الخامس الشيخ أحمد ومرافقيه في قصر باكنغهام وكان برفقتهم الكابتن ماكولم واستمرت المقابلة 17 دقيقة، وقد هنأ الشيخ أحمد الملك جورج الخامس على انتصاره في الحرب العالمية الأولى، أعظم الحروب دمارا في التاريخ، كما شكره على الحفاوة التي استقبل بها وكرم الضيافة، وقدم الهدايا للملك التي كانت عبارة عن خنجر عربي. مطلي بالذهب، وسيف رائع مطلي بالذهب كان مملوكا لأحد شاهات (جمع شاه) فارس، كما قدم له حصانا عربيا، ولكن هذا الحصان لأسباب معروفة لم يظهر في قاعة الاستقبال، وقد رحب الملك بالشيخ أحمد ترحيبا وديا، خاصة أنه حفيد مبارك الكبير، وأكد له أنه مستعد للإجابة عن أي سؤال أو طلب يطلبه حول الكويت، وفي النهاية أهدى له الملك صورة له في إطار من الفضة مرسوم عليه الشعار الملكي والتاج».
وفي اليوم الثامن من شهر نوفمبر، غادر الشيخ أحمد الجابر الصباح بريطانيا عائدا إلى الكويت، وحل في طريقه بمصر، حيث لقي حفاوة بالغة، وشاهد عددا كبيرا من آثارها فقد زار المتحف المصري ورأى الأهرامات وأبا الهول وبقي هناك حتى اليوم السابع والعشرين من شهر نوفمبر حين غادر مصر في اليوم السابع والعشرين من شهر نوفمبر، إلى الكويت التي وصلها في اليوم الخامس عشر من شهر ديسمبر.
***
وبعد، فهذه جولة في دنيا الترحال قديما وحديثا، وكان لابد منها حتى نطلع على أعمال الرحالة القدماء والمحدثين الذين كان همهم في رحلاتهم العمل والاستكشاف.
إذن، فهي رحلات مختلفة عن تلك الرحلات التي تحدثنا عنها في المسامرات التي تحمل الرقم (17)، لأن هذه الرحلات إنما هي رحلات عمل وتعرف على الأماكن. وكانت بداياتها نشر الدين الإسلامي الحنيف، وهذا هو ما حدث في الفتوحات التي تمت، وذكرناها هنا.
وغني عن البيان أن الرحلات بصورة عامة موضوع واسع يصعب الإلمام بكل ما يتعلق به في مثل هذه المسامرات، ويكفي أن يطلع المرء على المؤلفات الكثيرة التي تناولت هذا الموضوع لكي يكون على يقين من ذلك.
وما قدمناه هنا إنما هو إشارة تدل على المراد.