في مزرعة على بعد أميال من مدينة فلورنسا يجلس ميكافلّي متأملا عقول الشخصيات التاريخية محاولا الكشف عن أسرار قوتهم وعظمتهم ليقذف لنا كتابه الأشهر «الأمير» الذي حشد فيه أفكارا عملية للوصول إلى السلطة والاستمرار فيها وحمايتها والحصول على القوة حتى أصبح هذا الكتاب عند السياسيين كتابا مقدسا كأمثال نابليون، على الرغم من أنه مدان بشكل واسع لكونه غير أخلاقي! لكن تجاوزت تأثيرات كتاباته عالم السياسة فقد وجد بايكون وهيغل في كتاباته تأكيدا على نظرياتهم، بل أعجب بعض الشعراء بالطاقة الروحية التي يكتنزها الكتاب، وفي كتابه «المطارحات» وجد الشباب الثوار فيه نوع من الإلهام وخارطة طريق لما يجب أن تكون عليه مجتمعاتهم في المستقبل، لربما فكر ميكافلّي بعناية في استراتيجية الكتابة نفسها وفي الأثر العميق والقوة التي سيحصل عليها بعد موته عبر تهريب أفكاره بطريقة غير مباشرة إلى رؤوس قرائه.
قبل فترة اتصل علي أحد زملاء الدراسة يبشرني بأنه أصبح أستاذا في الجامعة بعد محاولات عديدة للقبول في البعثات في مواجهة مع تيار المحسوبيات، كان اتصاله للسلام والاطمئنان ثم أخذ يذكرني بمقال كتبته في جريدة «آفاق» الجامعية قبل أكثر من 14 عاما يدور حول مواجهة التحديات والأخذ بزمام المبادرة مؤكدا أن ذاك المقال ما زال مطبوعا في ذاكرته بأفكاره المحفزة التي ظل يذكرها حتى اتصاله هذا، غمرتني الفرحة لتلك المحادثة وأيقنت بأن ما نكتبه قد يغير حياة الآخرين ويلهمهم النجاح.
وفي عام 2004 ألقى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما خلال سباقه للفوز بالرئاسة، خطابا في مؤتمر الديموقراطيين بحماسة وكلمات رنانة كتبت باحترافية شديدة فكانت سببا في بزوغ نجمه بشكل ساطع في الساحة السياسية وأعطاه ذاك الخطاب ميزة لينافس في انتخابات الرئاسة.
حين تحدد لك استراتيجية في الكتابة مقدما حلولا عملية تطعمها بكلمات منتقاة بعناية تدرس فيها الأبعاد النفسية لقرائك وقصصا تعرضها بطريقة احترافية لا تخلو من الحبكات والدراما ومقولات وحكم راسخة تضمن بذلك تأثيرا عميقا.
al_kandri@