تتوجه حشود المعزين في المقبرة إلى صالة معدّة لاستقبالهم لتقديم واجب العزاء لذوي الميت بعد أن انتهوا من المشاركة في تشييع ميتهم لمثواه الأخير، وآخرون يقدمون تعازيهم على فترة يومين متتاليين في مكان العزاء المقرر(ديوانية، صالة، خيمة... الخ، للرجال مواقع مستقلة عن مواقع النساء)، يتوجهون لتقديم واجب العزاء بأسلوب يبرز ذلك التعاطف المأمول والمستحسن، مغلفة بعبارات كبيرة بمعانيها، عظيمة بسحرها المطمئن «عظّم الله أجرك.. كلنا لها.. شد حيلك يا خوي.. وهكذا، ويرد أهل المتوفى أجرنا وأجرك جزاك الله خيرا»، معان لها أثر بالغ في تخفيف وطأة الحزن، فمثل هذا النوع من المشاركة لها وقع خاص بنفوس وذوي المتوفى وأقربائهم، تتصف أحينا بمشاعر تبادل الألم والحزن، بمنطق رزين، وتعاطف بعيد عن المجاملات والنفاق إلا ما ندر.
يقول أحدهم: تدري وأنا أستقبل المعزين، انتابني شعور غريب ممزوج بالألم والنشوة معا! ازددت معه حيرة دون أن أحتسب، فعندما أمد ناظري عمدا لأشاهد ذلك الطابور الطويل خارج الديوانية وقد اصطف المعزون بشكل منتظم ينتظرون دورهم للدخول علينا لتقديم العزاء، يستبدل حزني حينها بالفخر والاعتزاز لمكانة أهلي، عشيرتي، عزوتي، أبناء عمومتي، أقربائي البعيدين منهم قبل القريبين.
فلولا مكانتنا وتقدير هذه الحشود لنا، لما اهتم أحد بمصابنا ومشاركتنا أحزاننا كما هو الحال عليه في أفراحنا، لقد خفف عنا هذا الموقف الألم بفقد عزيز.
ويكمل: ساعات أقول حتى لو حضورهم ومشاركتهم من باب النفاق والواجب الاجتماعي المتبادل!
فهذا لا يهم، لأنهم ساهموا في تخفيف الحزن عنا، وطبطبوا على أكتافنا، المثقلة بلوعة الفراق، إنها المشاركة الحقة بإظهار المشاعر والأحاسيس الجياشة، من خلال إبراز قدر من الوجدان الصادق، كم كنت محتاجا حينها لتعاطف الناس معنا؟ تعاطفا أستجديه ولا أشحذه من الآخرين، والتعبير الصادق المطلوب حينها، كفيل بالمشاركة بحمل ثقل الهموم، وتجفيف الدموع، والتئام جروح الفراق، إن تفريغ موجات حزن سالبة اعتراني همها وجراحها كبيرة جدا.
قاطعته:.. وإذا غادركم المعزون وخلت الصالة منهم، ألا تشعر حينها بعودة الحزن مضاعفا وتتسع مساحة الألم بعد أن كان المشيعون بلسمه؟
قال: لا يا أخي، يتبقى يومان من استقبال المعزين، يزهو ديوان العائلة بهم وبمشاركتهم أحزاننا، وبمساعدتنا على النسيان وتجاهل الألم! وهو كما تعرف «المشاركة الوجدانية» من وسائل تخفيف الحزن، مع دعم الأشخاص الآخرين الذي له تأثير إيجابي كبير ويسهم في تخفيف وطأة الضغوط النفسية علينا.
ذلك هو أحد أساليب علاج الحزن والمواساة بفقد عزيز، أضعناها بفضل كورونا وتداعياتها، ليقتصر العزاء على دقائق معدوده في المقبرة فقط، بعد أن كان ثلاثة أيام، وتذيل عبارة النعي «نظرا للأوضاع الصحية الراهنة يقتصر العزاء بالمقبرة أو الاتصال هاتفيا أو عبر الرسائل النصية»! عادات وتقاليد أصيلة أضاعتها كورونا مثلما أضاعت فينا جماليات عدة!