لم تعد قوة الدول تقاس فقط بقوتها المادية الصلبة، ولكنها أصبحت تضم معايير ومصادر أخرى لها اهميتها في ثقل الدولة ونفوذها كالقوة السياسية والاقتصادية والرقمية والثقافة والتعليم والاعلام والتي تشكل في مجموعها ما يطلق عليه بالقوة الناعمة التي اصبحت من الادوات المهمة للدول في العصر الحديث نتيجة للتقدم التكنولوجي الواسع وتشابك مصالح الدول، كما أصبح مفهومها الذي ابتكره جوزيف ناي مساعد وزير الدفاع في حكومة الرئيس الاميركي الاسبق بيل كلينتون ورئيس مجلس المخابرات الوطني في كتابه «القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية» الصادر في العام 2004 من المفاهيم الدارجة والمتعارف عليها، وتعمل كثير من الدول بما فيها الكبرى على بذل جهود كبيرة وتسخير موارد كثيرة لتنمية وتفعيل قواها الناعمة وجعلها رصيدا اضافيا لقوتها الصلبة تحقق من خلالها اهداف سياستها الخارجية، وتتنوع مصادر القوة الناعمة ولكل منها اهميته ودوره في ابراز اهمية الدولة ونفوذها على الصعيد العالمي.
وفيما يتعلق بالكويت، فإنها من الدول التي تمتلك ادوات مهمة في هذا المجال، ولعل تصنيفها في مؤشر القوة الناعمة لعام 2022، الصادر عن شركة براند فاينانس البريطانية، فقد احتلت المركز الخامس عربيا و36 عالميا من اصل 120 دولة متقدمة عن مركزها السابق 42، وترصد براند فاينانس من خلال هذا المؤشر الثقافة والتراث والعلاقات الدولية والاعلام والاتصال والتعليم والعلوم والتجارة والاعمال، وسمعة وشعبية كل دولة، ومدى قدرتها على التأثير في سلوكيات اطراف متنوعة على الساحة الدولية من خلال الجاذبية او الاقناع وليس الاكراه.
ولعل ابرز ما يرتبط باسم الكويت في هذا المجال هو مساعداتها التنموية الواسعة من خلال الصندوق الكويتي للتنمية الذي قدم قروضا تنموية منذ عام 1961 لنحو 105 دول، ودورها السياسي الريادي في الوساطة لتسوية المنازعات بين الدول، اضافة لدورها الانساني المتعدد الاوجه والذي بناء عليه تم اختيارها في 9/9/2014 من قبل الامم المتحدة مركزا للعمل الانساني وتسمية اميرها الراحل الشيخ صباح الاحمد، طيب الله ثراه، قائدا للعمل الانساني، ناهيك عن العمل الخيري الواسع للمؤسسات الكويتية الخيرية، وكل ما ذكر هي ادوار مهمة في السياسة الكويتية يتعين المحافظة عليها ومواصلة تسليط الضوء عليها اعلاميا.
لكنه يجب الالتفات الى اهمية مصادر اخرى يمكن ان تكون رافدا اضافيا لقوة الكويت الناعمة، فالثقافة والآداب هي احد تلك المصادر المهمة التي يتوجب تنميتها والعناية بتسويقها الكترونيا وفق مقتضيات التطور التكنولوجي لزيادة جاذبيتها، لقد كانت مجلة «العربي» وملحقاتها الصادرة عن وزارة الاعلام وعلى مدى عقود تمثل واجهة ومنارة ثقافية مهمة للكويت وسفيرا ثقافيا لها في انحاء الوطن، وهناك اجيال عربية كانت تتابع هذه المجلة بلهفة ولاتزال تستذكر محتوياتها الفكرية الغنية بالعلوم والمعرفة الرصينة. لذلك، من الضروري الاهتمام بالديبلوماسية الثقافية للكويت من خلال تطوير المنظومة الثقافية وجعلها محفزة للقطاعات الاقتصادية واستقطاب الكفاءات المحلية والخارجية وتشجيع البرامج الثقافية وزيادة اقامة المنتديات الثقافية على شاكلة معرض الكويت الدولي للكتاب الذي جرى قبل ايام عقد نسخته الـ 45، وقد أحسن وزير الاعلام عبدالرحمن المطيري بقوله على هامش افتتاح المعرض «ضرورة استمرار التطوير المستحق لقطاع الثقافة الذي يسهم بشكل كبير في تطور المجتمعات للوصول الى الريادة».
وتمثل الفنون بالتأكيد مصدرا آخر مهما للقوة الناعمة كما ان لها مردودا اقتصاديا لا يستهان به، ونستذكر هنا كيف تمكنت المسلسلات التركية من غزو العالم العربي بدءا من مسلسل «نور» في العام 2008 وما تلاه من اعمال فنية اسهمت بشكل كبير بالتعريف بالثقافة التركية وارثها التاريخي وفي تحقيق منافع مهمة كاستقطاب السياح الى تركيا بشكل متزايد منذ ذلك الحين وتشجيع الاقبال، خاصة من فئة الشباب العربي، على تعلم اللغة التركية وشراء منتجات الدولة التركية، وهو ما قامت به ايضا وبشكل جزئي الدراما اللبنانية والسورية في فترة من الفترات، ولدينا في الكويت تجربة فنية غنية ورائدة على مستوى دول الخليج العربي وقامات فنية لها حضورها في كل بيت خليجي، واغلب القنوات الفضائية العربية قدمت اعمالا رصينة وجميلة مازلنا نستمتع ونتعلم منها جيلا بعد جيل، وهذا رصيد مهم للبلد يتوجب استثماره من خلال التنظيم الجيد والمبكر للمواسم الترفيهية وزيادتها وألا تقتصر على احتفالية «هلا فبراير» السنوية، ولابد من الاشادة هنا بتخطيط المملكة العربية السعودية لاستضافة معرض «اكسبو 2030» بعد التجربة الناجحة لدولة الامارات العربية المتحدة في «اكسبو 2020».
ان ما تقدم الحديث حوله من مسؤوليات وادوار تدخل ضمن اختصاصات وزارة الاعلام وكذلك المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وكلنا نتطلع إلى ان نشهد انطلاقة متميزة لوزارة الاعلام من خلال تنفيذ استراتيجيتها الجديدة الطموحة 2021 ـ 2026 وان يتمكن المجلس الوطني من تنفيذ استراتيجيته الجديدة القائمة على رؤية «تنمية ثقافية مستدامة وبيئة محفزة للابداع» للاعوام 2023 ـ 2028، وان يتم اشراك منظمات المجتمع المدني المتخصصة والكفاءات الاكاديمية والمهنية.
وفي اطار الحديث عن دور وزارة الاعلام، يتعين ايضا التطرق لاهمية تطوير المنظومة الاعلامية للدولة ومؤسساتها، فالإعلام المعاصر بكل تفرعاته اصبحت له قوة ونفوذ لا يستهان به، وليس له حدود، وكذلك فإن قدرته على تشكيل الرأي العام وتحصينه وغرس القيم المجتمعية الصحيحة تتضاعف يوما بعد يوم، والكثير من الدول اصبحت تدرك وخاصة بعد احداث الربيع العربي الاهمية البالغة لهذا السلاح في اثارة او معالجة الازمات وضرورة الاستثمار بالوسائل الحديثة للاعلام (الاعلام الرقمي) بسبب ادوارها الاقتصادية والسياسية والتعليمية والتثقيفية للمجتمع، او من ناحية اخرى تشديد الرقابة على وسائل التواصل والحد من تأثيراتها. والاعلام اصبح بذلك من المصادر الرئيسية للقوة الناعمة للدول التي من خلاله تواجه التحديات المحلية والاقليمية والدولية وتتصدى لمخاطر التطرف والارهاب. وقد عرفت الكويت تاريخيا بسبب تجربتها الديموقراطية الرائدة في المنطقة بهامش الحريات الصحافية المتقدمة لديها، ولذلك فقد حازت المرتبة الاولى خليجيا والثانية عربيا والمركز 105 عالميا في مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2021 الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، وهي مرتبة علينا العمل على تحسينها من خلال إعادة النظر في بعض التشريعات والقوانين وتشجيع الاعلام الوطني المسؤول. لذا، يتعين علينا كدولة صغيرة ان ندرك ان الاستثمار في الامن الاعلامي والنهوض بإعلامنا في الداخل والخارج هو تعزيز للامن الوطني للكويت، وهي مسألة لا تحتمل التأجيل في خضم التحديات والمخاطر الاقليمية المتصاعدة التي تحيط بنا.
ولعلنا نضيف الى ما سبق التأكيد على اهمية مراكز الفكر والدراسات في اطار تعزيز القوة الناعمة للدولة، فهذه المراكز تتزايد اهميتها في العديد من الدول لما تملكه من خبرات بحثية متخصصة لها دور مهم في تقديم المشورة لأصحاب القرار وفي تشكيل الرأي العام بالدولة او تجاهها وإبراز سياستها الخارجية والدفاع عنها اذا لزم الامر، لذا، اصبحت بعض الدول تكلف اجهزة معينة لديها بإنشاء مراكز بحثية أو دعم واستقطاب مراكز اخرى في دول اخرى وتوفير الموارد المادية والفنية لها، وهو امر لا يخفى على المتابعين لهذا الشأن، وقد صدرت على سبيل المثال العديد من التقارير في الولايات المتحدة حول الدعم الذي تقدمه بعض الدول لمراكز الفكر والدراسات في اميركا، ولابد من الاشارة هنا الى ان مراكز الفكر والدراسات المستقلة في الكويت ليس لها راع رسمي في الدولة يتابع شؤونها، وهي بالتالي معرضة لمحاولة استقطابها من الخارج نتيجة ضعف علاقتها بمؤسسات الدولة وعدم الاهتمام والعناية الرسمية بهذا المجال، مما انعكس في ضعف انتاجها البحثي وعدم قدرة اصحابها على تحمل المصاريف الادارية والتشغيلية وعدم قدرتهم على استقطاب باحثين متميزين، وبالتالي فالنتيجة هي تدني تصنيفها الدولي.
وفي لمحة سريعة للمراكز البحثية في الكويت، البالغ عددها 16 مركزا وفق التقرير السنوي لمؤشر Global Go To Think Tank للعام 2020 الذي تصدره جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، نجد ان اهمها المعهد العربي للتخطيط، وهو مؤسسة عربية اقليمية تضم في عضويتها عدة دول عربية، ويحتل هذا المعهد المرتبة الـ 47 على مستوى مراكز الفكر والدراسات في الشرق الاوسط، مما يجعلنا ندرك اننا بحاجة للاهتمام بهذا الجانب واتخاذ اجراءات تشجع على انشاء مراكز نوعية مستقلة او شبه مستقلة، ولا نعني هنا مكاتب التدريب والاستشارات، من خلال تبسيط الاجراءات، كما هناك حاجة لتكليف جهة رسمية بمتابعة اداء هذه المراكز ومصادر تمويلها، ولقد شاركت في عدة مؤتمرات اقليمية ولمست مدى الدعم والرعاية الرسمية الذي تتلقاه مراكز الفكر والدراسات في بعض دول الخليج، والذي انعكس بشكل واضح في قدراتها على تنظيم مؤتمرات عالمية عالية المستوى وانتاج دراسات مهمة واستقطاب باحثين متميزين.
واخيرا، يتوجب علينا ان ندرك ان قوة أي دولة في الداخل تنعكس ايجابا على نفوذها وقوة سياستها الخارجية في محيطها الاقليمي والدولي، وان الدول غير المستقرة سياسيا والمفككة نتيجة الانقسامات والمشاحنات وتعدد مراكز القوى غالبا ما تكون عرضة لأطماع الدول الاخرى وتدخلاتها في شؤونها الداخلية، وقد مَنَّ الله عز وجل علينا بقيادة حكيمة رضيت بالمشاركة الشعبية اسلوبا للحكم وادارة الدولة، لذلك يجب ان تكون ممارستنا الديموقراطية ممارسة واعية ومسؤولة وبعيدة عن المزايدات والاجندات الشخصية والحزبية والفئوية حتى لا نضعف من هيبة بلادنا وقوتها وصلابة جبهتها الداخلية ووحدتها الوطنية التي نعتز بها، كما يجب ان نلتف حول رؤية الدولة الاستراتيجية 2035 وان نعمل جاهدين على تذليل كل الصعوبات لتنفيذها على ارض الواقع لكونها تمثل الهدف بعيد المدى الذي نسعى لتحقيقه من اجل استمرار نماء البلاد وازدهارها وديمومة قوتها في الداخل والخارج.
[email protected]