قبل ظهور التكنولوجيا الحديثة، كان منع كتاب معين يعني كارثة بالنسبة للكاتب، فلن ينشر كتابه، وإن نشر بالخارج، نادرا من يستطيع السفر والحصول عليه، فالجهد الذي بذله الكاتب في الكتابة سيصبح هباء منثورا، بعد انتشار الإنترنت أصبح بعض الكتاب يتسابقون حتى يمنع كتابهم، لأن في ذلك تسويقا مجانيا له، ويستطيع الكل شراءه كنسخة إلكترونية عبر الإنترنت، وسيستغل الكاتب هذا المنع بالتسويق له عبر وسائل التواصل، وحتى الأشخاص الذين لا يقرؤون عادة، سيسعون الى الحصول عليه، من باب كل ممنوع مرغوب، حتى أصبح الفكر السائد يقول: إن كنت ترغب في نشر فكرة امنعها، فكم من فكرة غبية انتشرت لأنها منعت، وكم من كتاب ورقه أغلى منه انتشر لمجرد منعه.
في السابق عندما كانت الدولة معزولة عن بعضها، والاحتكاك بين مدينة وأخرى محدودا جدا، كان المنع فعليا يمنع انتشار الفكرة، لكن الآن سرعة انتقال الفكرة أقل من ثانية عبر الإنترنت، والفضائيات لا تستطيع أن تمنع شيئا، بل بالعكس بالمنع تسلط الضوء عليه، ثقافة المنع انتهى زمانها، ولا شك أن كل زمان له طريقة بالتعاطي معه، التعاطي مع الزمن الحالي بالطريقة القديمة لن يأتي بالنتيجة المرجوة، وقد تكون النتيجة عكسية، ونشاهد هذه النتيجة العكسية بشكل متكرر، لكن دون اتعاظ.
في زمن السرعة أصبحت الأفكار الدخيلة على المجتمعات لا تعد ولا تحصى، لو كل فكرة سلطنا عليها الضوء بمنعها، فسنخسر الكثير، فالمئات منها تموت قبل أن تنتشر، لأنها ببساطة لم يسلط عليها الضوء بمنعها، فيجب ألا يتم التعاطي معها إلا بعد أن تصبح ظاهرة، عندها يمكن وضع الحلول المنطقية لها، وآخر هذه الحلول يكون المنع، أما التوجه إلى المنع منذ البداية فهو دليل على عقلية سطحية، لا تحسن قراءة الواقع.
الطفل الذي تربى على المنع سيكون غير محصن عن الأفكار التي منع عنها، لكن الطفل الذي تربى على نبذ الأفكار السلبية وكون لديه خبرة عن سلبية هذه الأفكار ومدى سوء تأثيرها عليه وعلى مجتمعه، لن تستطيع الفكرة أن تأثر عليه، والمجتمع ينطبق عليه نفس الوضع، إعطاء جرعات فكرية لمواجهة الأفكار غير المرغوب فيها، أكثر وأفضل جدوى من منعها عنه، فالمجتمعات المغلقة أكثر انهزامية ولديها سوء تعاط مع العولمة الحاصلة بالعالم، بينما المجتمعات التي لديها جرعات فكرية تستطيع أن تواجه العولمة وتفرض أفكارها عليها.
كنت أستغرب كثيرا أن تظهر مذاهب ذات فكر متطرف في دول متقدمة دون أن يتم منعها، مثل جيم جونز وطائفته التي انتهت بأكبر انتحار جماعي في التاريخ راح ضحيته 913 شخصا، أو طائفة أومو بالياباني التي أطلقت الغاز السام في قطار الأنفاق، وكانت الإجابة بأنه لو تم منعها من البداية لانتشرت وأصبح ضحاياها أكثر، لكن هذه الدول تعاملت معها بأسلوب الحرب الباردة، بنشر التوعية بخطر هذه المذاهب ومن بعد أن يتبين خطرها على المجتمع بشكل واضح يتم اجتثاثها.
قد يكون من أكبر مشاكلنا أن كل مجموعة حتى لو لم يتجاوز عددها أصابع اليد، تعتقد أنها الممثل الرسمي للمجتمع، وأنها تمثل الغالبية العظمى، ونسبة كبيرة منهم لا ينظر إلا تحت أرجلهم، ويتعاملون مع المجتمع على أنهم أوصياء عليه، فلا يحق لأحد أن يخالفهم، أو يرى ما لا يرون. كل مجموعة متخندقة في أفكارها، أقصى طموحها أن تمنع أفكار الطرف الآخر.