لقد أعطانا الله سبحانه الفرصة للتفكر واستخلاص العبر ورؤية الحقائق في هذه الحياة الدنيا لنفوز فوزا عظيما في الآخرة، فأنزل الكتب السماوية، وأرسل الرسل داعيا الناس عبرهم للتفكر في أنفسهم وفي خلق الكون من حولهم.
(أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)، ولكن معظم الناس يظن أن «التفكر العميق» يقتضي من الإنسان أن يعتزل المجتمع ويقطع علاقاته بالآخرين ويبتعد عمن حوله من ثم ينسحب إلى غرفة خالية لا يوجد بها أحد غيره! فيجعلون من التفكر العميق قضية صعبة جدا، مع أنها أبسط من ذلك بكثير، قال في كتابه العزيز: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) فإن الله تعالى يدعو جميع عباده ليتفكروا ويتدبروا في آيات القرآن الكريم؛ لأنه سبحانه أنزله لهذا الغرض.
وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل القرآن الذين يعيشون معه ويقرأون آياته ويتدبرون معانيه، «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وقادهم هذا التدبر والتفكر إلى إدراك الكثير من الحقائق، وبالتالي إلى مخافة الله سبحانه مخافة الموقنين، إذ إن الهدف المهم والأساسي في الأمر كله هو أن يستطيع الإنسان تطوير ملكة التفكر عنده وتعميقها أكثر فأكثر، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)، فلو رفعت الأقفال عن القلوب: لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علما ضروريا - يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح والألم والحب والخوف.
والإنسان الذي لا يبذل جهده في التفكر والتدبر والتذكر يعيش في حالة دائمة من الغفلة والضياع، وحالة الغفلة التي يعيشها أولئك الذين لا يتفكرون بما توحيه كلمة الغفلة من التجاهل مع عدم النسيان والانغماس في الشهوات والوقوع في الإثم والاستخفاف والإهمال، هي نتيجة من نتائج تساهلهم في الموضوع واستخفافهم به زائد تجاهلهم لكلام الله سبحانه وابتعادهم عنه.
لكن ما ان يبدأ الإنسان في التفكر والتدبر سيبدأ باستكشاف قدرته وكيفية استخدامها، حتى يتبدى له الكثير من الحقائق التي لم يستطع أن يسبر أغوارها من قبل، وهذا الأمر في متناول كل شخص منا، وكلما استغرق الإنسان في تأمل الحقائق، تعززت قدرته على التفكر بصورة أكبر، ولا يحتاج الإنسان في حياته هذه إلا إلى هذا التفكر الملي والمجاهدة الدؤوبة.
فالإنسان الذي لا يتفكر يبقى بعيدا كليا عن إدراك الحقائق ويعيش حياة قوامها الإثم وخداع الذات، وبالتالي فإنه لن يتوصل إلى مراد الله من خلق الكون، ولن يدرك سبب وجوده على الأرض، فالله سبحانه وتعالى خلق كل شيء لسبب، وهذه حقيقة ذكرها عز وجل في القرآن الكريم بقوله: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون).
ولو نوقش البعض منهم في أمرهم لأجابوا فورا بأنهم مؤمنون بالله ملتزمون بتعاليمه، لكن بما انهم لم يعقلوا فيتفكروا ويتدبروا ويتعظوا فإن إيمانهم هذا لم يؤد بهم إلى الصلاح، وبالتالي إلى مخافة الله الحقة، لذلك تجد معظمهم يتصرفون وكأنهم لن يبارحوا هذا العالم وأنهم مخلدون.
فإن الذين لا يؤدي بهم التفكر إلى إنقاذ أنفسهم من حياة الغفلة سوف يفهمون الحقائق عندما يرونها بأبصارهم بعد مماتهم، حين يقف كل منهم بين يدي ربه ليلقى حسابه، وحينها يكون الأوان قد فات، (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)، فعلى كل إنسان أن يتفكر في الغاية من خلقه، لأن ذلك له علاقة مباشرة به أولا، وبكل ما يراه حوله في الكون، وكل ما يعرض له في حياته تاليا، والله تعالى يذكر في محكم كتابه إن كل الناس سوف يتفكرون عندما يعاينون الحقيقة في يوم الحساب (وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي).