منذ اللحظات الأولى بتكليفه للإمامة في مسجدنا وهو يحاول التعرف على المصلين، خاصة الشياب منهم، وتكوين علاقات اجتماعية وصحبة قوامها التآلف والمودة لرواد بيوت لله، حيث العلاقات الطيبة بين أبناء الحي الواحد أو رواد المسجد الذين اعتادوا أداء صلواتهم فيه، لتتكون بينهم المحبة في الله، وتنمية أواصر الأخوة الحقة التي لا تعرف للمصلحة دروبا، ولا النفاق نهجا، ولا المجاملات وسيلة، بل السعي لتحقيق ذلك الانسجام في الأسرة الواحدة، يشعر الفرد خلالها بتلك اللحمة المباركة التي جمعتهم على محبة الله والعمل بما يقتضيه، فإذا غاب احدنا يوما عن المسجد سأل عنه بقية المصلين واطمأنوا عليه، هذه بعض من عادات المصلين في مساجد الأحياء التي عادة ما يحرص إمام المسجد على بلوغها.
لقد استرعى انتباهي طريقة إمامنا الجديد في تحقيق تلك الغاية بالتقرب للمصلين ومحاولاته بناء علاقات اجتماعية وصحبة معهم، كانت طريقته محببة تتصف بأسلوب رجل الدين الحق الذي يقرب لا ينفر، يوحد لا يفرق، يجمع على محبة الله ورسوله، أسلوب اجتماعي تقبله الجميع، شجعني ذلك على طلب المزيد، فاستثمرت حينها شغفه وبدأت بتنمية علاقتي معه أكثر، لتتعدى (السلام عليكم شيخ، كيف أصبحت شيخ أو كيف أمسيت شيخ؟) فتحقق ما أريد، وتعمقت علاقتي معه حتى بلغت مستوى شجعني على نقل هذه العلاقة الى خارج أسوار المسجد، لكنها لم تتعد بضعة كيلومترات نقضيها في رياضة المشي قريبا من المسجد، مرت أيام وزادت العلاقة به طيبا، ومن معشره تألقا، فرغبت في توسيع نطاق هذه الصحبة المباركة، وأنتقل معه في رحلة الى شاليه أحد الاصدقاء ليتعرف على كوكبة متلهفة للقاء بأمثاله، لأفاجأ باعتذاره لي لعدم تمكنه من مرافقتي، مذكرا ببقية الفرائض التي يجب عليه التواجد بالمسجد ويصليها بالناس، فاستدركت خطأي.
مرت الأيام ومازالت فكرة اصطحابه معي لأي مكان تراودني، فعاودت الكرة يوما طالبا مرافقتي لزيارة أصدقاء من فئة المزارعين الهواة في منطقة العبدلي، فضحك قائلا: أشكرك على الدعوة، فكم أنا مشتاق لزيارة مثل هذه المزارع، لكن هذا مستحيل لنفس السبب الذي ذكرته لك سابقا، ومرت أيام فجاءتني فكرة جديدة بدعوته للذهاب سريعا لتناول «استكانة» شاي في أحد مقاهي المباركية، كون مسجدنا ضمن المناطق المطلة على حدود الدائري الأول (يعني نروح ونرجع قبل موعد الصلاة القادمة) وأن مثل هذا الطلب متاح بعد صلاة المغرب، وصعب بعد صلوات الفجر أو الظهر أو العصر، بسبب طبيعة عملي وكذلك طبيعة عمل الإمام، أو أمثاله من الحريصين على تأدية واجباتهم، استمع الإمام لطلبي ثم عاود الضحك قائلا: الظاهر أنك نسيت يا دكتور أني إمام مسجد والصلاة قادمة ووجودي واجب بحكم وظيفتي، أدركت حينها أن (ماكو فايدة) فصداقتنا ذات حدود مكانية ضيقة جدا، وطلبات الخروج و(التمشي) مع إمام مسجد مرفوضة. شعر إمامنا الفاضل بخيبة أملي، فدعا لي بأن يرزقني الله صحبة طيبة مع إمام آخر لأحد مساجد أسواق الديرة أو إمام أحد مساجد الشاليهات، أو إمام أحد مساجد مزارع العبدلي!