نزل القرآن الكريم على العرب وعندهم فنون أدبية متنوعة، أهمها الشعر الذي كان لسانهم وحافظ تاريخهم، المختلف عن سجع الكهان الخاص بالكهنة والعرافين، وجاء المصطفى صلى الله عليه وسلم بنوع جديد من حيث الشكل والمضمون، لم تستطع العرب أن تصنفه. لكن كيف تعامل الإسلام مع الشعر الذي قارنه بعضهم بالقرآن الكريم، وكيف تعاطى النبي معه، فهل أقصاه وأبعد المسلمين عنه كما فعل مع الخمر، أم شجع عليه وحث على تعلمه كما فعل مع الأخلاق الحميدة التي أبقى عليها بعد الإسلام؟
هذا التساؤل ليس جديدا - ولا سهلا - فيه الكثير من الأقوال، واختلف العلماء بين من يرى أن الإسلام أبعد الشعراء وأقصاهم وهاجم الشعر، وآخرين - وهم الأكثر - يرون أن الإسلام شجع على الشعر وتعلمه، والفريقان يسوقان أدلة وأحاديث، فالأول يستحضر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا». والآخر يقدم قوله صلى الله عليه وسلم «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر حكمة».
الدكتور فايز ترحيني يقدم تحليلا في كتابه «الإسلام والشعر» لتضارب تعاطي الإسلام مع الشعر، باستخدامه المنهج التاريخي فيقول: إن الإسلام في بدايته عندما كان يقارن بالشعر ويوصم النبي عند الكفار بالشاعر هاجم الشعر، وبعد ذلك تحول مع الانتقال لدولة المدينة المنورة إلى استخدام الشعر للرد على هجاء قريش، فكان حسان وعبدالله بن رواحة، ثم بعد توحد الجزيرة للنبي وفتح مكة لم يعد هناك اهتمام بالشعر، وانتقل المسلمون إلى الانشغال بكتاب الله تعالى، ليقول لبيد حين سئل لماذا لا تقول شعرا: أبدلنا الله بالقرآن خيرا من الشعر.
هذه النظرة البرجماتية لتعاطي الإسلام مع الشعر ليست منطقية، فتاريخيا حديث «لأن يمتلئ..» كان في المدينة! فكيف والنبي حوله حسان وبقية الشعراء! لنتوقف مع قول الله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون ألا ترى أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا)، لقد كان سبب نزول الآية أن اثنين من الصحابة تهاجا ونزلت الآية لتمنعهم من هذا، كما أن أغراض الشعر الجاهلي أكثرها مكروه، لما تحمل من فخر وغزل وهجاء، لا يشجع الإسلام عليها والدليل الآية السابقة وسبب نزولها.
بجمع الأدلة بين القرآن والسنة وما كان من فعل الصحابة في الموقف من الشعر، لعل الإسلام لا يشجع ولا يدفع إلى الشعر، إلا لأبواب خدمة الدين بالاستفادة من الشعر في اللغة وحفظ التاريخ، فالشعر ديوان العرب. لكن أن تكون شاعرا فهذه منقصة، فالخلفاء من بني أمية لم يوصم أحدهم بالشاعر ما عدا صاحب الخمريات والمجون الوليد بن يزيد بن عبدالملك، وإن سلمنا بالتقسيم السياسي للأدب نرى حقبة الخلافة الراشدة قد ضعف بها الشعر، كما قال الأصمعي «الشعر نكد بابه الشر»، والإسلام خير كله، لذلك كان هذا التضاد بين الشعر والإسلام، لكن الحاجة للشعر في العصر الأموي والتحزب أعاد للشعر وهجه، فقدم الخلفاء وقادة الأحزاب العطايا للشعراء لتسويق أفكارهم وهجاء أعدائهم، واستمر التطور في الشعر إلى أن وصل إلى أبي تمام والبحتري والمتنبي.