دمشق - هدى العبود
في لقاء لـ «الأنباء» مع الكاتب والإعلامي سامر محمد إسماعيل عن واقع المسرح السوري، قال: هناك تصادم أساليب حاد شهده المسرح السوري في سنوات الحرب التي مرت علينا، المسرح الذي كان يرتهن لأشكاله القديمة وتكراراته المملة خلع هذه المرة ثوب الوقار القومي ليرتدي بزته المموهة وقبعة الإخفاء الماهرة من جميع أنواع الرقابات المعهودة منها قبل الاجتماعية والقبلية، خشبة المسرح تصرخ وتئن وهي تحترق، ومع هذا سجلت مسارح سورية، ولاسيما في العاصمة دمشق، عشرات العروض التي عبرت عن شجاعة واضحة ورغبة في الإشهار والصراخ في وجه الموت العمومي وغرائز التدمير الهمجية.
وعن معاناة المسارح السورية، أوضح إسماعيل: جميعنا يعلم أن المسارح السورية، خصوصا الأثرية والتاريخية منها مثلا مسرحا بصري وتدمر تمت السيطرة عليهما نتيجة الحرب من قبل المسلحين، وتحول مدرج تدمر التاريخي إلى منصة تمثل إعداما للبشر فوق خشبته الحجرية عوضا عن عروض مسرحية هادفة لبناء الإنسان السوري والعربي، وهذا شاهده العالم كله.
وتابع: لكن وبالعودة للمسرح القومي نجد أنه حظي بعروض نستطيع القول إنها الأغزر إنتاجيا، ولم تكون الرقابة الحديدية كما كان الوضع ما قبل الحرب، فلجان المشاهدة وقراءة النصوص صارت أمرا شكليا، واصبح من الممكن تقديم أطروحات موضوعية على الخشبة بهامش مفاجئ من حيث سعته وقدرة العاملين في المسرح على أخذ الأمور حتى نهاياتها في انتقاد طرفي النزاع على حد سواء، وهذا ما قام به المسرحي والفنان العالمي غسان مسعود عن نص «لوتس مسعود» الذي عمل على تقديم هوامش جديدة، وتسمية الأشياء بمسمياتها على الرغم من الحلول الفنية المتواضعة والبنية المباشرة للنص المكتوب، إذ كان مسعود قد ركز على تناول الحرب من مقلب آخر عبر تطويع نصوص المآسي الكبرى لشكسبير في مسرحيته «عرش الدم - الأوبرا السورية» ولتكون «مكبث» باقتباس رياض عصمت عنها هي حكاية العنف والشر والطموح حيث «الدم يطلب الدم» كإسقاط ماهر على نبذ العنف وإدانته.
وأكمل: للأمانة كان عرض «اختطاف» للفنان أيمن زيدان، والذي قام بالتعاون مع محمود الجعفوري بإعداد مسرحية «الأبواق والتوت البري» للإيطالي داريو فو، موجها نقدا لاذعا لمن يحاول الاستثمار في الإرهاب تحت عناوين وشعارات ضللت الشعوب وجعلتها نهبا لحكومات رجال الأعمال المتعاقبة.
وبسؤاله «هل تعاني الحركة المسرحية السورية من نقص في الكتاب أو الممثلين المسرحيين؟»، أجاب: لا تعاني سورية من نقص بالكتاب ولا الممثلين ولا المخرجين المسرحيين، لكن معاناتنا تندرج برحيل أغلب شركات الانتاج القادرة على إنتاج مسرح هادف للخارج نتيجة الحرب وعلى سبيل المثال فرقة المسرح القومي عندما تقرر تمثيل سورية في المهرجانات العربية والعالمية، لا يقدم لها أي دعم مادي أثناء الإعداد للسفر للمشاركة بالأعمال السورية في الخارج، لكن عندما يعودون يحتفى بهم وبالجوائز التي كرمت بلدهم، مشيرا الى أن النجوم السوريين الكبار على المستوى العالمي تخرجوا في المعهد العالي للفنون المسرحية أمثال الفنان المسرحي العالمي غسان مسعود، وأيمن زيدان، عباس النوري، سلوم حداد، فايز قزق، سامر عمران، عروة العربي، جهاد سعد. وأردف: هذه الكوكبة من النجوم درست بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وعملوا على خشبة هذا المسرح الذي ضاهى مسارح العالم ولم يهجروه يوما، لكن المعاناة جعلت هذه العروض شبه نادرة على الرغم من هامش الحرية الكبير الذي ما زال المسرح السوري يتمتع به، من حيث التعبير عن معنى المسرحية وإيصالها بأكبر قدر من الإحساس، هذا الهامش حقيقة لا يتمتع به التلفزيون، والقصد في حال كانت هناك قبلة بين البطل والبطلة تخدم وتدعم المشهد ترفض رقابيا، وهذا ما حصل من خلال مسلسل «شارع شيكاغو» مؤخرا.
وحول ما ينقص المسرحيين في سورية لعودة الألق المسرحي كسابق عهده، رد إسماعيل: ينقصنا الدعم من قبل وزارة الثقافة ونقابة الفنانين للفرق المسرحية، نحن نعاني لدرجة لا يتخيلها من هم خارج هذا الوسط، مثلا عندما دعينا الى مهرجان قرطاج لم يقدم لنا أي دعم على الإطلاق حتى بطاقات السفر، كما ينقصنا اليوم الشغف لكتابة نص مسرحي وقلائل من يكتبون نصا مسرحيا في هذه الأيام، علما أننا نمتلك نبعا للإبداع والأفكار الجديدة، وإبداعنا جاء من رحم معاناة سورية على مدى اثني عشر عاما من الحروب والمآسي، والحمد لله التقط هذا الإبداع من قبل الكتاب وقدموه من خلال أعمال تلفزيونية وسينمائية ومسرحية حية نالت العديد من الجوائز العربية والعالمية، كما ينقصنا النظر الى الجدية لهذا الفن الذي يعكس الحب الحقيقي لهذا الفن الراقي، وحتى لا أكون مجحفا هناك أصوات تعلو مطالبة بدعم المسرح والمسرحيين بجميع المدن السورية نظرا للأعمال المسرحية التي تركت أثرا عميقا بذاكرتهم، ففي مدينة الحسكة السورية مثلا هناك مسرح يعتبر من اهم المسارح تمتلئ صالاته أثناء العرض بتنوع من القوميات والثقافات المختلفة، هذا التنوع بحد ذاته «قوس قزح» سوري متنور متنوع بحضاراته وثقافاته، وهذا ينطبق على مسارح باقي مسارح المدن السورية.
وتابع: للتوضيح أكثر فقد قدم الفنان الشامل والمخرج سامر عمران تورية في استخدام مقهى شعبي في قلب دمشق القديمة، وذلك ليقدم مسرحيته «نبوءة» إنتاج «عين الفنون» مسندا دور «الحكواتي» لممثلة شابة (ربا الحلبي) هادفا لأن يكون جمهور أعرق أحياء دمشق القديمة أمام حكواتية امرأة في مناظرة ذكية مع الكرسي الفارغ الذي يتوسط مقهى النوفرة الأثري بعد موت «أبو شادي» آخر حكواتي في دمشق بعد نزوحه من بيته مع أسرته من ريف دمشق بفعل النزاع الدائر، فمنذ موت آخر حكواتي في البلدة القديمة، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سير «عنترة» و«عبلة» و«أبي زيد الهلالي»، إلا أن «عمران» في «نبوءة» اختار مقهى الشام القديمة المواجه مباشرة لمقهى «النوفرة» في تحد فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة، متناولا سنوات الحرب في بلاده، لتسرد المرأة هذه المرة حكاية من نوع آخر، مبتعدة عن قرقرة ماء النراجيل وجمر أدخنتها وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم، الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجة بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحة بمقطع من «ملحمة السراب» لسعد الله ونوس 1941- 1997، المسرحية التي كانت بمنزلة استشراف مبكر لما سيؤول إليه واقع البلاد.
وأضاف إسماعيل: من خلال «الأنباء» أريد أن أصف المعاناة الحقيقية التي نعاني منها عندما يشاهد الطلبة أساتذتهم «القدوة» يعملون في مسلسل «باب الحارة» مثلا أو غيره من الأعمال التلفزيونية أو السينمائية تتلاشى رغبتهم بأن يكونوا فنانين مسرحيين ويحلمون بالوصول حيث قدوتهم «أساتذتهم»، وفي حال طلبنا منهم العمل بمسرحية لمدة خمسة عشر يوما فقط يعتذرون ويحدثونك عن أعمالهم التلفزيونية والسينمائية وما حققوه من أجر عال ومشاهدة واسعة على المستويين المحلي والعربي، والكارثة انه لا توجد لدينا مسارح مدرسية تتبنى المواهب وترعاها وتوجهها منذ الصغر، علما أن القوانين تتضمن إقامة مسرح مدرسي، لكن المعنيين بهذا الشأن المهم يقدمون أعمالا «تمشاية حال»، والمؤسف أن من يدير تلك المراكز في كل المحافظات السورية هم موظفون عاديون لا ينتمون للحياة الفنية المسرحية، ويكتفون بتقديم عروض خاطفة لا تغني ولا تثمن من جوع، ونطالب بدعم المسرحيين في دمشق لأنهم يحققون أهداف إنشاء وزارة الثقافة وهو نشر الوعي والتنوير في المجتمع.
واستطرد: مع هذا، أنا متفائل ببلدي وحضارته، هذه البلاد طوال عمرها قادرة على تجاوز المحن، ومن يقرأ تاريخها يدرك أن هذه المنطقة مصابة بموقعها، هذه المسارح الحجرية سواء في بصرى الشام أو تدمر أو أفاميا وعمريت، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن هناك مدنا حضارية أنشئت حول هذه المسارح، وللعلم ليست المعاناة فقط في المسرح والعقبات التي وضعت أمامه وما يعانيه، بل هناك معاناة كذلك تعيشها الدراما، فهي تعاني من مسلسلات تعمل على نشر السخف وثقافة الرداءة، وهذا موجود ولا نستطيع أن ننهيه في سورية إلا من خلال جمهور مثقف، وهذا الجمهور بحاجة لأن يشاهد هواجسه وهمومه من خلال المسرح، ومن حقنا كسوريين الذهاب للمسرح ومشاهدة مسرحيات هادفة من أجل بناء فكر ثقافي، والمثقفون السوريون يدركون تماما أن المسارح الفرنسية مثلا لم تتوقف يوما ورصدت ميزانيات ضخمة تضاهي ميزانيات دول، وهناك دول تسخّر كل إمكاناتها لطباعة آلاف من نسخ رواياتها من أجل بناء أجيال تبني ولا تدمر، لذلك فان نقابة الفنانين السورية عليها أن تكون السباقة لاستكمال مهمتها ودورها المهم في إحياء المسرح، والدعوة موصولة إلى مديرية المسارح والموسيقى، كما أن دار الأوبرا عليها أن تقوم بدورها بأن يكون لديها على الأقل أربع فرق مسرحية تعمل على مدار العام، فهي قادرة على استقطاب مسرحيين مبدعين، كما أننا نطلب من وزارة الثقافة دعم المسرحيين ماديا، والمفارقة أن الأعمال الفنية الرخيصة «كالخيانة الزوجية» تحظى بدعم من قبل شركات الإنتاج والهدف تجاري بحت.
وتابع: عندما نقابل المسرحيين العرب يتحدثون إلينا بأنهم يحلمون بعرض أعمالهم المسرحية على مسرح القباني والحمراء بدمشق، وذلك نظرا للإرث التاريخي المسرحي الثري والغني الذي قدم على تلك الخشبة الصامدة حتى يومنا هذا، وما زالت تعيش في ذاكرة كل من شاهدها، مثل مسرحية «كاسك يا وطن» و«غربة» من ينساها من الإخوة العرب حالها حال مسرحية «ريا وسكينة» المصرية، و«باي باي لندن» الكويتية.
وأكمل إسماعيل: هل تصدقون انه لا يوجد لدينا أي عرض مسرحي حاليا، وعندما تكون هناك عروض مسرحية على مسرح دار الأوبرا ترسل الدعوات لفنانين مسرحيين بدرجة كمبارس، ولا ترسل لفنانين قدموا حياتهم على خشبة تلك المسارح، كما يعاني الفنان المسرحي مع الأسف من النظرة الدونية لأنه لا يعمل أعمالا تلفزيونية أو سينمائية، ومن المضحك المبكي عندما يقام عرض مسرحي كبير في أي دولة عربية أو أجنبية تقدم الدعوات للفنانين العاملين في الدراما التلفزيونية، علما أن نجوم التلفزيون السوري كانت انطلاقتهم الأولى من مسارح الجامعة، وجميعهم أساتذة كبار سواء في الأعمال السينمائية او التلفزيونية او المسرحية، ومن يقف على خشبة المسرح يشرفوننا بالتمثيل خارجيا.
وأثناء الحوار، كان الكاتب والإعلامي سامر محمد إسماعيل موجوعا على بلده فقال: سورية لها طابع وهوية ثقافية، وكل ما جرى فيها في العمق كان حربا ثقافية، والمطلوب منا حمايتها من خلال تقديم اللوحة الفنية الهادفة والعرض المسرحي الجيد، وكذلك علينا واجب تقديم الرواية الجيدة الهادفة لبناء الأجيال، وأن تكون القصيدة الشعرية أيضا هادفة، فالشاعر الكبير نزار قباني ابن دمشق وتربت أجيال على شعره الناقد، كما أننا مطالبون بالوقوف في وجه المبادرات التي قد تكون غير بريئة، لأن من يديرها ليس لديهم الخبرة الكافية، ولهم أجنداتهم الخاصة بهم.
وأضاف: نطالب الدولة بألا تتخلى عن هذا الدور، وفي حال تخلت نكون نحن في كارثة حقيقية، والمسرح السوري ما زال من أهم المسارح، وما هو متواجد في سورية من كتّاب ومسرحيين أكاديميين يجعلنا نقدم مسرحا يضاهي أهم المسارح العالمية والعربية، وعلى المعنيين أن يطوروا القوانين الخاصة بالمسرح لأن القوانين المعتمدة ما زالت من سبعينيات القرن الماضي، كما أن المسرح بحاجة إلى قرار سياسي من أجل تطويره بشكل عام، وهذه القوانين منعت أي «سبونسر» من تقديم أي دعم مادي للمسرح لأن القوانين لا تسمح بذلك، والأهم الإمساك بأيادي أجيالنا منذ المرحلة الابتدائية من خلال المسرح المدرسي مرورا بالمسرح الجامعي، لنؤسس نجوما مهمين من أمثال كوكبة نجومنا الحاليين، ومن خلال الطلبة الذين ينتسبون إلى المعهد العالي ويختصون بالمسرح.