الصداقة معنى أصيل في الوجدان البشري، والصحبة الصالحة لا تقدر بثمن، ولا توزن بشيء إلا رجحت عليه، فالصداقة مأخوذة من الصدق والبر، ولا غنى للإنسان عن الصديق في هذه الدنيا، والعاقل لا يصاحب إلا الفاضل في دينه وعلمه وأخلاقه، وأنّا لنا بمثل هذا الصاحب في هذا الزمن، فقد أصبح من يحمل هذه الصفات النبيلة عملة نادرة، فمن الصعوبة بمكان أن تجد صديقا تتوافر به هذه الصفات، ما جعلنا بالفعل نقول إننا نعيش أزمة صداقة، فرب أخ لك لم تلده أمك تكاد تكون حبرا على ورق، وحتى الصديق وقت الضيق غرقت في بحر المصالح، ومع ذلك فنحن نقول إن الدنيا لا تزال بخير، ولا نستسلم لليأس، أو نفقد الأمل، وفي المنظومة الإسلامية حثنا ديننا الإسلام على مصاحبة الأخيار، ونهانا عن صحبة الأشرار.
ولأهمية الصداقة في حياة الناس، يقول المولى عز وجل: (وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) «الأنفال: 36»، و«الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (صحيح البخاري)، فالقلوب تتلاقى وتعرف بعضها بعضا على بعد المسافات، يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: «قد تقطع الرحم، وقد تكفر النعمى، ولا شيء كتقارب القلوب»، وإن أجمل ما في هذه الدنيا الصديق الموافي الصالح، وقد حدد الإمام علي رضي الله عنه شروط الصحبة فقال: «شرط الصحبة إقالة العثرة ومسامحة العشرة والمواساة في العسرة».
ويقول أحد الحكماء: «لا تثق في شمس الشتاء، ولا في الدنيا فهي دار فناء، ولكن ثق بأخ لك لم تلده أمك»، وفي ذلك يقول الأحنف بن قيس التميمي: «خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها، وإن عثرت عضدك، وإن احتجت مؤونته رفدك»، وكان أبو الدرداء الأنصاري مؤاخيا لسلمان الفارسي، رضي الله عنهما، فكتب إليه من الشام: «إن تكن الدار من الدار بعيدة، فإن الروح من الروح قريب، وطير السماء على إلفه من الأرض يقع» (عيون الأخبار). ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان أبو الدرداء أخا لسلمان الفارسي حتى فرّق الموت بينهما، ومن علامات الصديق المصافي لك أن يكون صديق صديقك وعدو عدوك، وسئل حكيم أيضا: أخوك أحب إليك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا كان لي صديقا، وفي ذلك يقول الشريف أبوالقاسم الكوفـــي (ت 543 للهجرة):
أخ لي لم يلده أبي وأمي
تراه الدهر مغموما بغمي
يقاسمني سروري كل حين
ويأخذ عند همي شطر همي
فلو أحد من الأقدار يفدى
إذا لفديته بدمي ولحمي
هذا، ودمتم سالمين.