قال تقرير صادر عن بنك الكويت الوطني ان التداعيات الناجمة عن تعثر بعض البنوك الأميركية في الآونة الأخيرة أدت لحدوث سلسلة من الصدمات في جميع أرجاء القطاع المالي على مستوى العالم، مما جعل التوقعات الخاصة بالسياسة النقدية للبنوك المركزية أكثر حذرا وتعقيدا.
وقبل وقوع تلك الاضطرابات، أشارت البيانات الاقتصادية المشجعة التي صدرت في الفترة الأخيرة إلى أن فرص تعرض الاقتصادات المتقدمة لركود عميق قد تراجعت لحد كبير. في حين مازالت الضغوط التضخمية مرتفعة، على الرغم من تباطؤها، وكلاهما يدفع باتجاه رفع أسعار الفائدة.
إلا أن هذا الرأي الأكثر تفاؤلا أصبح الآن أقل تأكيدا، إذ كان من المتوقع أن تتباطأ وتيرة النمو الاقتصادي للدول الكبرى هذا العام مقابل عام 2022، باستثناء الصين، إذ ساهم إعادة فتح الاقتصاد الصيني بعد احتواء الجائحة والانتعاش الناجم عن الطلب الاستهلاكي والصناعي في البداية لتعزيز ارتفاع أسعار السلع، وذلك على الرغم من أن اتخاذ مسار النمو اتجاها معاكسا منذ ذلك الحين. ولا تزال وتيرة تعافي الطلب في الصين من أبرز العوامل المؤثرة لتوقعات النمو والتضخم العالمي هذا العام.
تباطؤ وتيرة نمو الاقتصاد الأميركي
انتعش الاقتصاد الأميركي في النصف الثاني من عام 2022 بعد تراجعه على مدى ربعين متتاليين في النصف الأول، ليصل نمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 بأكمله إلى 2.1% مقابل 5.9% في عام 2021. وخلال الربع الرابع من عام 2022، نما الناتج المحلي بنسبة 2.7% (على أساس سنوي)، مقابل 3.2% في الربع الثالث، وسط ضعف مؤشرات الطلب الأساسية كالاستهلاك الشخصي (+1.4% مقابل +2.3%) وإجمالي الاستثمار الثابت الخاص (-4.6% مقابل -3.5%) مقارنة بالربع السابق.
إلا أن المؤشرات الأخيرة جاءت أفضل من التوقعات السابقة بدعم من استمرار زخم سوق العمل والتحسن المؤقت في ثقة المستهلك (سجل مؤشر ثقة المستهلكين لجامعة ميشيغان أعلى مستوياته في 13 شهرا عند 67 نقطة في فبراير). وكان مؤشر مديري المشتريات لقطاع الخدمات قويا، إذ وصلت قراءته إلى 55.1 في فبراير، وذلك على الرغم من بقاء مؤشر القطاع الصناعي في منطقة الانكماش للشهر الرابع على التوالي (47.7). وفي الوقت ذاته، كانت مبيعات التجزئة قوية هذا العام على الرغم من تراجعها في فبراير (-0.4%) بعد الارتفاع الشديد بنسبة 3.2% المسجل في يناير.
ويساهم عدد من العوامل في تعزيز بيانات الأنشطة الاقتصادية التي شهدناها مؤخرا، بما في ذلك قوة سوق العمل وزيادة الوظائف غير الزراعية في فبراير إلى 311 ألف وظيفة حتى بعد النمو القوي المسجل في يناير. في حين ارتفع معدل البطالة إلى 3.6%، إلا أنه لم يبتعد عن أدنى مستوياته في 40 عاما عند 3.4% في يناير. من جهة أخرى، واصل التضخم، وعلى الرغم من ابتعاده عن مستويات الذروة، الارتفاع نسبيا على الرغم من تراجع مؤشر أسعار المستهلكين في فبراير إلى 6% على أساس سنوي، مسجلا بذلك أدنى مستوياته منذ سبتمبر 2021، كما انخفض التضخم الأساسي إلى 5.5%. وعلى الرغم من أن اعتدال وتيرة نمو إيجارات المساكن قد يساهم في خفض تضخم أسعار الخدمات في الأشهر المقبلة، إلا أن ارتفاع أسعار الخدمات الأساسية (باستثناء القطاع السكني) سيساهم في بقاء معدلات التضخم أعلى بكثير من المستوى المستهدف من قبل الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2% هذا العام.
وكانت سياسات مجلس الاحتياطي الفيدرالي تتخذ اتجاها متذبذبا خلال الربع الأول من عام 2023. إذ أعاد البنك وتيرة رفع أسعار الفائدة إلى 25 نقطة أساس في يناير، مما رفع نطاق سعر الفائدة إلى 4.5 - 4.75%، مقرا بانخفاض معدل التضخم. إلا أن ارتفاع معدلات التضخم في وقت لاحق وقوة بيانات سوق العمل دفعت جيروم باول للإشارة إلى أن المجال لا يزال مفتوحا أمام رفع أسعار الفائدة بوتيرة أسرع.
وأدت الإشارات الحادة وغير المتوقعة على هشاشة النظام المصرفي الأميركي والتي بدأت في الظهور في منتصف شهر مارس لتغير مسار توقعات سعر الفائدة مرة أخرى - وهذه المرة في اتجاه أكثر تشاؤما. إذ انهار بنك سيلكون فالي الذي تركزت أنشطته على الشركات الناشئة، والذي يصل إجمالي أصوله نحو 210 مليارات دولار، بعد سحب الودائع بوتيرة غير اعتيادية وسط تسجيل خسائر ملحوظة لممتلكاته من أصول الخزانة الأميركية والتي نجمت عن رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة في وقت سابق. وخلال بضعة أيام، أغلقت الجهات الرقابية بنكا آخر مقره الولايات المتحدة، وهو Signature Bank (تصل قيمة أصوله إلى 110 مليارات دولار) لأسباب مماثلة. وكان تعثر بنك سيلكون فالي من أكبر الازمات التي تعرض لها النظام المصرفي الأميركي منذ العام 2008 والذي على ما يبدو أنه بسبب التعرض الكبير لقطاع الشركات الناشئة الذي يعاني بالفعل من ضائقة مالية. وضخت وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي أموالا طارئة للقطاع المصرفي، بما في ذلك كلا من بنك سيلكون فالي وسيجنتشر بنك، في إطار مساعيها لاحتواء الازمة. إلا أن تلك التطورات أثرت سلبا على الأسواق المالية، مما أدى لكبح التوقعات السابقة برفع أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس هذا العام.
ولم تقتصر التحديات المالية على هذا الحدث فقط، بل وصل سقف ديون إلى 31.4 تريليون دولار في يناير، وبدأت وزيرة الخزانة جانيت يلين تطبيق إجراءات إدارة نقدية استثنائية لكسب بعض الوقت حتى الصيف القادم لتجنب التخلف عن السداد لبضعة أشهر. إلا أن مساعي خفض النفقات التي يتبناها الجمهوريين الذين يسيطرون الآن على الكونجرس الأميركي لن تجعل التوصل لاتفاق سياسي على رفع سقف الديون سهلا.
أوروبا تظهر علامات أقوى على التعافي الاقتصادي
بدأ اقتصاد منطقة اليورو أدائه هذا العام بوتيرة جيدة مع استمرار علامات الانتعاش الاقتصادي على مدار الأشهر القليلة الماضية. وساعد في ذلك موسم الشتاء المعتدل نسبيا، وتوافر الغاز، وانخفاض أسعار الطاقة. وعلى الرغم من أن قراءة الناتج المحلي الأخيرة (الربع الرابع من عام 2022) كانت ضعيفة، إلا أن البيانات الرئيسية الأخرى كمؤشر مديري المشتريات والتضخم والبطالة تشير إلى نتيجة أفضل مما كان متوقعا في السابق. وبقي الناتج المحلي ثابتا على أساس ربع سنوي في الربع الرابع مقابل نمو نسبته +0.2% في الربع الثالث، مما أدى لتسجيل معدل نمو أضعف على أساس سنوي بنسبة 1.8% مقابل 2.1% في الربع الثالث من العام. وكانت البيانات الأخيرة لمؤشر مديري المشتريات مشجعة أكثر. إذ ارتفع مؤشر مديري المشتريات المركب بشكل ملحوظ فوق حاجز 50 وصولا إلى 52 لشهر فبراير مقابل 47.8 في نوفمبر بدعم رئيسي من أداء قطاع الخدمات (52.7). إلا أن قطاع التصنيع بقي في حالة انكماش (48.5).
وواصل مؤشر أسعار المستهلك في منطقة اليورو تباطؤه خلال شهر فبراير، إذ وصل إلى 8.5% على أساس سنوي مقابل مستويات الذروة البالغة 10.6% في أكتوبر 2022 على خلفية تراجع أسعار الطاقة والخدمات. إلا أنه فاق التوقعات وأعلى بكثير من مستوى البنك المركزي الأوروبي المستهدف البالغ 2%. كما ارتفع معدل التضخم الأساسي إلى 5.6% مقابل 5.3% في يناير. وقام البنك المركزي الأوروبي في فبراير برفع سعر الفائدة على الودائع بمقدار 50 نقطة أساس إلى 2.5%، مع توقع تطبيق المزيد من الزيادات خلال الفترة القادمة ـ والتي قد تشمل رفع سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس أخرى خلال الشهر الجاري. واستقر اليورو نسبيا دون تغيير يذكر منذ بداية العام مقابل الدولار الأميركي بعد ارتفاعه بنسبة 10% تقريبا خلال الربع الرابع من عام 2022، ومن المقرر أن تساهم تلك المكاسب الكبيرة التي تم تسجيلها في الربع الرابع من عام 2022 في دعم توقعات تضخم أسعار السلع المستوردة، بما في ذلك منتجات الطاقة.