الأديب والشاعر هو ابن بيئته، يتفاعل معها ويتحدث باسمها ويعبر عنها، وما كانت المواسم والمناسبات إلا مصدرا لفتح أقلام الأدباء، واستنهاض قريحة الشعراء. ورمضان موسم مهم من مواسم المسلم، ففيه تغير لنمط الحياة، وواكب الأدباء هذا التغير بإنتاجهم، فكان الإبداع في رمضان مميزا كتميز رمضان بين شهور السنة.
وشواهد هذا كثيرة في أدبنا العربي، لكن أريد الوقوف على أدب المقالة في رمضان، ومع أمير القلم محمد حسين الزيات صاحب مجلة الرسالة، الذي كتب ـ رحمه الله ـ مقالا في رمضان عام 1933م، فيه من الإبداع والجمال ما يوازي إبداع وجمال رمضان نور الشهور وسيدها.
ولعلي أضع بين يدي القارئ مقدمة المقال، ليعرف صعوبة الكتابة بعد القراءة لقلم الزيات: نعم رمضان! ولا بد من رمضان بعد أحد عشر شهرا قضاها المرء في جهاد العيش، مستكلب النفس، مستأسد الهوى، متنمر الشهوة، ليوقظ رواقد الخير في قلبه، ويرهف أحاسيس البر في شعوره، ويرجع روحه إلى منبعها الأزلي الأقدس فتبرأ من أوزار الحياة، وتطهر من أوضار المادة، وتتزود من قوى الجمال والحق ما يمسكها العام كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس.
في هذا المقال المطرز باللؤلؤ، والمغلف بالذهب، يشارك الزيات كعادته قراءه في الوقوف على أهمية زين الشهور، وكيف يجب أن نستقبل رمضان، حيث لا وساوس شيطان، والشوارع يغشاها الإيمان. كما يأخذنا إلى أهمية العلاقات الأسرية في هذا الشهر الكريم، والتواصل به مع الجار والمار، وفتح الموائد، وإدخال السرور على الفقير والمحروم، وتدبر كتاب الله في الجلسات والخلوات، وانتشار الذكر والتذكير، ودحض الشهوات بالعبادات.
حتى ينحني المقال إلى وضع المدينة متأسفا الزيات على ضياع تلك الأجواء الإيمانية، بين من كبلته الشهوة بسجنها، وسكنت قلبه الدنيا بسرابها، «فلا صام ولا صلى»، وأضاع هذه الغنيمة بالتفكير بحروب الغد الذي كفله الله بعلمه، دون إيمان بكرم الحنان المنان، ليختم المقال بمقارنة بين رمضان القرية والمدينة، وكيف أن القرية البسيطة مازالت متمسكة برمضان التقوى والتغير، ولم تستطع رياح اليأس أن تحطم الإيمان في قلوب ساكنيها.
هذا مقال كتب قبل تسعين عاما، ولكنه مازال يفيض واقعا، وكأن الزيات بيننا، ففيه وصف لحالنا ومجتمعنا، وفيه إبراز لعيوبنا ومميزاتنا. مخيف هذا الأمر! فكم نحن سذج حين نعتقد أننا مختلفون عمن سبقنا، معتقدون أن لنا حياة خاصة لا تشبههم، بل الواقع لاختلاف بيننا وإن اختلفت وسائل اتصالنا وانتقالنا. والذكي من اتعظ بمن سبقه، واتخذ من حياتهم عبرة وعظة، وهذا رمضان شهر التغير والتعديل والإقدام، أجمل فرصة لنيل رضا الله، فرضاه ـ سبحانه ـ مفتاح كل خير، وباب كل سرور.